كتب: المستشار د . محمد الدمرداش عاد المأمون إلي بغداد، وبعد حروب أكلت مئات الألوف. وقد عاد المأمون من حروب السيف إلي حروب الدهاء والعقل، بعد أن أصبح الأمر في المشرق والمغرب تحت سلطان المأمون، وهو سابع خلفاء بني العباس في الترتيب. ولقد كان المأمون واليًا من قبل والده علي «خراسان»، وكان يقيم في عاصمتها «مرو»، وكان من الطبيعي أن يفضِّلها بعد أن انفرد بالخلافة، حيث تضم أنصاره ومؤيديه، فهو هناك في أمان واطمئنان. وكان الفُرس يودون أن يبقي ب»مرو» لتكون عاصمة الخلافة، ولكنها بعيدة عن مركز الدولة، وهي أكثر اتجاها نحو الشرق، مما جعل سيطرتها علي العرب ضعيفة، واستيقن من ذلك لما ثار أهل بغداد أنفسهم ضد المأمون، حتي إنهم خلعوه أخيرًا، وبايعوا بدلاً منه عمه إبراهيم بن المهدي. واضطر المأمون أخيرا إلي أن يذهب إلي بغداد وأن يترك «مرو» للقضاء علي هذه التحركات في مهدها. وكان معظم أعوان المأمون من الفرس، وجُلهم من العلويين، ولهذا عمد المأمون إلي ممالأة القوم وكسبهم إلي جانبه، فأرسل إلي زعماء العلويين أن يوافوه في عاصمته (وكانت «مرو» في ذلك الوقت)، فلما جاءوه أحسن استقبالهم، وأكرم وفادتهم، وما لبث بعد قليل أن عهد بولاية العهد إلي الإمام علي الرضا بن الإمام موسي الكاظم ، وهي باليقين خطوة جريئة، لأن فيها نقلاً للخلافة من البيت العباسي إلي البيت العلوي.ولم يكتفِ بهذا، بل غيّر الشعار من السواد، وهو شعار العباسيين، إلي الخضرة وهي شعار العلويين. ورغم شديد اعتراض أقاربه من العباسيين، فإن المأمون كان مُصرّا علي هذا الأمر، إذ كان يظهر أن ذلك من باب بِرّ الإمام علي بن أبي طالب. وجاءت عمة أبيه زينب بنت سليمان بن علي، وكانت موضع تعظيم العباسيين وإجلالهم، وهي من جيل المنصور، وسألته: «ما الذي دعاك إلي نقل الخلافة من بيتك إلي بيت علي؟»، فقال: «يا عمة، إني رأيت عليًّا حين ولي الخلافة أحسن إلي بني العباس، وما رأيت أحدًا من أهل بيتي حين أفضي الأمر إليهم كافأه علي فعله، فأحببت أن أكافئه علي إحسانه». ويعتبر الإمام الرضا من الأئمة الذين لعبوا دورًا كبيرًا علي مسرح الأحداث الإسلامية في عصر المأمون، وكان محورًا لكثير من الأحداث الجسام. أقول: وعلي الرغم من وفرة الروايات والثوابت المنقولة فإن ما كتب عن الإمام لم يعطِ التاريخ حقه، فالمعلومات المعروفة عند الناس شحيحة في حجمها ناقصة في جوهرها. ومن المؤسف أن قليلاً من المسلمين من يعرف عن شخصية الإمام علي بن موسي الشهير بالرضا ، وسيرته التي اتسمت بالكفاح المرير طيلة حياته. وباليقين لقد كان من عجائب المأمون إصراره علي نقل ولاية العهد إلي الرضا رغم شديد نكير العباسيين له. ويفصح قابل الأيام عن دهاء المأمون في استخدامه هذه الحيلة لإخماد ثورات العلويين، فقد تعلم الدرس من أسلافه أن السيف قد يقطع رقاب الثوار لكنه لا يقضي عل الثورات التي زلزلت أركان البيت العباسي، ولما كانت الثورات في جلّها العظيم من العلويين وأنصارهم فقد كانت الحيلة أن يولي العهد إلي إمامهم ورمزهم، وهو الأكبر منه بعشرين سنة، ولذا كان المتوقع أن لا يطول بقاؤه بعده، ولكن الإمام رفض ذلك، وكان يعرف نوايا المأمون، فقد قتل أخاه الأمين من أجل الحكم والخلافة، فكيف يتنازل عنها؟! ولقد أجبر الإمام الرضا بعد طول إلحاح وترهيب آخر المطاف علي قبول ولاية العهد رغم رفضه إياها مرارا وتكرارا، وعندما بدأ المأمون يهدد بقبولها التمس الإمام إليه أن يعفيه من هذا التكليف، فأردف المأمون قائلاً: «إنك يا أبا الحسن تتلقاني أبدًا بما أنا كارهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أن تقبل ولاية العهد وإلا ضربت عنقك»، ليفصح عن أسلوب شديد العسف والمكر في نقل ولاية الأمر، وليعلن المأمون في خطاب تولية الرضا العهد بقوله: «لاحظت في شخصية الرضا السجايا الحميدة كأفضل الناس والعلم الغزير والزهد الخالص والتخلي عن متاع الدنيا وقربه إلي الناس، فالألسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعة، فقد تجلي في الإمام المقام الرفيع منذ أن كان يافعًا حدثًا ثم مكتهلاً». وكذلك وصف الجاحظ الذي عاصر عصر المأمون الإمام الرضا فقال: «كان الرضا عالمًا زاهدًا، ناسكًا شجاعًا، جوادًا كريمًا». وبعد أن فرضت عليه ولاية العهد من قبل المأمون قسرًا شرط ألا يتدخّل في شئون الحكم. وضُربت النقود باسم الإمام.وليقين الإمام أن أساليب الحكم العباسي لا تتماشي ونهج الإسلام الحنيف فكان شديد النكير لأفعال العباسيين، وكانوا يوغرون صدر المأمون تجاه الإمام الرضا ولكنه كان يظهر صبرًا وتقديرًا للرضا لغرض في نفس يعقوب، وبعد أن هدأت ثورات العلويين، وكانت حاشية المأمون تستبيح أموال المسلمين ودماءهم وأعراضهم في البذخ والترف والتمتع بالملذات، الحلال منها والحرام، فيكفي أن نضرب مثالا في الإسراف المذهل والاستهانة بمشاعر الشعب في وصف لحفلة زفاف أقامها الخليفة المأمون لعروسه بوران التي قال عنها المؤرخ ابن طيفون إنها كانت من غرائب قصص الخيال، فقد نثرت علي رءوس الضيوف، وكان غالبيتهم من أقارب الخليفة ووزرائه وقواد جيشه، كميات من مصقول البندق الذي كان يحتوي في داخله علي رقاق كتب عليه إحدي العبارات الثلاث: إما قرية أو جارية أو فرس. فالضيف الذي ينال بندقة يذهب إلي الوكيل بسجل ما بداخلها ملكًا صرفًا لحاملها، فلو كان من نصيبه قرية أصبح الضيف في تلك الساعة صاحب تلك القرية بما فيها من بشر وحيوانات وقلاع وبساتين وغيرها! وهكذا مع البقية، فتصوروا! وهذا كله كان علي حساب الشعب الأعزل الذي كان يعاني حياة البؤس والشقاء لينعم الخلفاء وحاشيتهم بحياة ملؤها الترف الحرام. وقد سجّل التاريخ لقاء الشاعر الفحل دعبل الخزاعي بالإمام الرضا، فقد روي أبو الصلت الهروي أن دعبل الخزاعي دخل علي الرضا في مرو وقال له: «يا ابن رسول الله، إني قد قلت فيكم قصيدة وعاهدت نفسي أن لا أنشدها أحدًا قبلك». فرحّب به الإمام وشكره وطلب منه إنشادها. وبدأ دعبل يترنّم بأشعاره، وقد جاء فيها: مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلاَوَةٍ... وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ العَرَصَاتِ قُبُورٌ بِكوفَان وأُخْرَي بِطيبةٍ... وَأُخْرَي بِفَخٍّ نَالَهَا صَلَوَاتِي وَقَبْرٌ بِبَغْدَاد لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ... تَضَمَّنَهَا الرَّحْمَنُ فِي الغُرُفَاتِ فقال الإمام مرتجلاً: وَقَبْرٌ بِطوسٍ يَا لَهَا مِنْ مُصِيبةٍ... أَلَحَّتْ عَلَي الأَحْشَاءِ بِالزَّفَرَاتِ فقال دعبل متعجبًا: «لا أعلم قبرًا لكم بطوس! فلمن هذا القبر؟!»، فقال الإمام: «إنه قبري يا دعبل». وهكذا فقد اقترب الفصال بين الإمام الرضا والمأمون بعد أن أعلن العباسيون تمرّدهم في بغداد، وبايعوا المغنّي خليفةً بدل المأمون خوفًا من انتقال الخلافة إلي العلويين. وصار المأمون ينتهز الفرص للتخلّص من الإمام الرضا بعد أن يئس من إغرائه بالسلطة، وبقي كما هو طاهرًا مطهرًا بعيدًا عن الدنيا زاهدًا فيها. ولكي يرضي المأمون بني العباس في بغداد ويحتفظ بالخلافة قرّر اغتيال الإمام، فدسّ إليه السمّ في العنب. واستشهد الإمام متأثرًا بالسم، فمضي إلي الله مظلومًا شهيدًا. وكانت علاقة المأمون بالإمام الرضا أولي صفحات كتاب المكر والدهاء الذي سطر فيه المأمون صفحات وصفحات، نستعرضها الجمعة القادمة إن كان في العمر. وكيل مجلس الدولة ورئيس المحكمة الادارية بجامعة الدول العربية