كتب: المستشار محمد الدمرداش تناولنا فى مقال الجمعة الماضى حكم هارون الرشيد الذى حفل بالمتناقضات وغرائب الأحوال، وضربنا لبطش الرشيد مثالين مما أورده التاريخ، سطرنا المثال الأول عما فعله بالبرامكة، ونسوق فى مقال اليوم المثال الثاني، الذى يفصح بجلاء عن جور الرشيد وبُعده عن منهج الخلافة الراشدة، وهو ما فعله مع الإمام موسى بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب والسيدة الزهراء، حيث ينقل إلينا التاريخ أن الرشيد عندما زار مدينة رسول الله (ص)، توجّه لزيارة النبى (ص) ومعه الناس، فتقدم إلى القبر وقال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا ابن العم»، وكأنه يريد أن يفهم كل من حوله بأنه يملك الخلافة على أساس دينى قوامه قرابته من الرسول الأعظم (ص)، فتقدم الإمام الكاظم إلى القبر فقال: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبتاه»، وتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه. ومردّ تمعّر وجه الرشيد أن الكاظم لم يترك له مجالاً ليأخذ عنفوانه ويستطيل بزهوه على هذا أساس القرابة للنبى المصطفى (ص). وهنا يريد الرشيد أن يرد عليه فيسأله: «لِم جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله (ص) ويقولون لكم: يا بنى رسول الله، وأنتم فى حقيقة الأمر بنو على بن أبى طالب، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة الزهراء إنما هى وعاء، والنبى جدكم من قِبل أمّكم؟»، فقال الكاظم: «لو أن النبى (ص) عاد إلى الحياة من جديد فخطب إليك كريمتك، هل كنت تجيب؟»، فقال: «سبحان الله! ولِم لا أجيبه؟ بل وأفتخر على العرب والعجم وقريش قاطبة بذلك»، فقال الكاظم: «لكنه (ص) لا يخطب إلى ولا أزوّجه»، فقال: «ولِم؟»، قال الكاظم: «لأنه ولدنى ولم يلدك». ولم يكن الإمام الكاظم يريد أن يعارض نهج العباسيين ومظالم الرشيد للعباد فقط من موقع القرابة كما كان العباسيون يفعلون عندما كانوا يقدمون أنفسهم للناس على أنهم أبناء عم الرسول (ص)، لكنه كان يريد أن يسقط هذا العنفوان والاستكبار لهارون الرشيد الذى شهد عصره عصفًا بالحقوق والحريات والأخذ بالشبهة مما لم يكن عند الأُمويين. وفى الجانب الآخر حسم الرشيد أمره أن الخطر المحدق به نظرًا لائتلاف قلوب الناس حوله هو الإمام الكاظم، وعليه قرر الرشيد حبسه بعد أن عرف تأثيره فى المجتمع الإسلامي، ورأى أن هذا التأثير يمكن أن يمتد ويقوى ويتعمق بالمستوى الذى قد يجعل للإمام امتدادًا أكبر، فيهدد حكمه بعد ذلك، ولذلك يقال ويا للعجب الذى يدخل ضمن سياق تناقضات هارون الرشيد الصارخة بأنه وقف أمام قبر رسول الله (ص) معتذرًا منه (ص) بأنه يريد حبس الكاظم، قائلا: «لأنى قد خشيت أن يلقى بين أمتك حربًا يسفك فيها دماءهم»! ومنطق هارون هو عين منطق كل الطغاة فى كل زمان، وكان الذين يتحدثون عن أية قوة معارضة بأنها تبغى الفساد فى الأرض وتروم التفريق بين الناس وتهديد أمنهم، وتفضى إلى تهديد الأمن والسلام الاجتماعي، وما إلى ذلك من الكلمات التى هى فى حقيقتها عنوان للحق الذى يراد به باطل.. وأخيرًا يصدر هارون أمرًا بإلقاء القبض على الكاظم، حيث يسيره إلى البصرة، وبعد ذلك إلى بغداد، ثم يوضع الكاظم فى سجن السندى بن شاهك الذى كان رجلاً فظًّا غليظًا، فضيّق عليه ووضعه فى «طامورة» لا يعرف فيها الليل من النهار، ودس إليه السم فى طعامه فاستشهد فى سجنه. ولقد وصّى هارون لثلاثة من أبنائه بولاية العهد، وهم: الأمين والمأمون والمؤتمن، بالترتيب، ولمعرفته بميول قومه العباسيين إلى ولده الأمين الذى كانت والدته زبيدة ترعاه، خشى على المأمون الذى كان يرى فيه كفاءة وحزمًا أكثر لإدارة البلاد فمنحه بعض المناصب فى الدولة. وكان الفُرس الذين كانوا لا يزالون متنفذين فى الدولة العباسية على الرغم من نكبة البرامكة يميلون نحو المأمون لأن أمه منهم ولأنه تربى فى أحضانهم. من هنا كانت سحُب الفتنة تتجمع فى سماء الأمة، وكان هلاك هارون الرشيد فى خراسان فى وقت مبكر وقبل أن ينهى ترتيب أوضاع البلاد معجّلاً بإشعال نار الفتنة، كما أن مرافقة المأمون لوالده، التى جاءت -حسب بعض الروايات- بإشارة من معلّمه ووزيره الفضل بن سهل، ساهمت فيها. وفى المقابل سارع الأمين، وربما بإشارة من بعض قواده العباسيين، إلى خلع أخيه ونصّب ابنه وليًّا للعهد، وكان من الطبيعى أن يرفض المأمون ذلك، مما حدا بالأمين إلى بعث بعض قواده ليأتوا به مغلولاً، وقد شجع المأمون بعض قادة جيشه، ولا سيما مَن هُم مِن الفُرس، على التمرد ففعل، وانتهى الأمر بالحرب بين الأخوين، التى أدت إلى خلع الأمين وقتله واستتباب الأمر لأخيه المأمون. وكانت هذه الحرب أول حرب بين العباسيين، ومن أسوأ الحروب الداخلية بين المسلمين، مما زعزع الثقة بالنظام السياسى عند الجماهير وشجع المعارضة على الثورة، فإذا بأطراف البلاد تنتفض وتخلع الحاكم وتبايع واحدًا من العلويين. وكانت أخطر وأعظم هذه الثورات حركة أبى السرايا فى الكوفة التى قادها السرى بن منصور، وعقدت لواء الزعامة لواحد من أبناء الإمام الحسن بن على واسمه محمد بن إبراهيم بن إسماعيل. وانتشرت هذه الحركة حتى شملت الكوفة والواسط والبصرة والحجاز واليمن، ووقعت بينها وبين جيوش بنى العباس معارك طاحنة لم يظفر العباسيون بها إلاّ بالحيلة والمكر، وفى مكةالمكرمة ثار محمد بن الإمام جعفر الصادق وبويع بالخلافة ولُقّب ب»أمير المؤمنين». وكانت هناك ثورات أخرى فى بلاد الشام والمغرب وكلها تدل على اضطراب الوضع السياسى، حتى إن الناس لم يبايعوا المأمون إلاّ بعد أن استتب الأمر له وعاد إلى بغداد، وبعد حروب أكلت مئات الألوف. وقد عاد المأمون من حروب السيف إلى حروب الدهاء والعقل، وهو ما نتناوله الجمعة المقبلة إن كان فى العمر بقية. وكيل مجلس الدولة ورئيس محكمة الجامعة العربية