كتب: المستشار د. محمد الدمرداش تناولنا في مقال الجمعة الماضي انقلاب العباسيين علي العلويين وتنكيلهم بهم بصورة فاقت أفعال الأُمويين بهم، ولم يكتفوا بمحاربتهم بالسيف، بل استنهضوا سلاح الإعلام والقلم واللسان، فأطلقوا لمبغضي العلويين العنان في النَّيل منهم. وقد تولي هارون الرشيد الملك، ولم يحظَ خليفة بعد الخلفاء الراشدين بالشهرة الواسعة وذيوع الذكر مثلما حظي الخليفة العباسي هارون الرشيد، غير أن تلك الشهرة امتزجت فيها الحقيقة بالخيال واختلطت الوقائع بالأساطير، حتي كادت تختفي صورة الرشيد، وتضيع قسماتها وملامحها. وباليقين، إن هذا الخليفة يحمل تناقضات مذهلة، فهو من أشد العباد رقة وقت الموعظة، وأكثرهم عسفًا وقت الجور والغضب، محب للطرب، جمع حوله كثيرًا من العقول المتنافرة المتقدة التي صار يضرب بعضها بعضًا. دامت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة، لكن في المقابل شهد عصره نموذجًا صارخًا لدولة الفرد التي يستطيل الملك علي العباد دون شوري أو مراعاة لحقوق العباد. ونضرب لبطش الرشيد مما أورده التاريخ مثالين، الأول عن البرامكة، وقد كان من أشد ما أولع المؤرخون بذكره نكبة هؤلاء البرامكة وما فعله فيهم هارون، وأجهدوا قرائحهم في تعرف أسباب إيقاع الرشيد بهم. رغم أن هذا العمل لم يكن بدعًا في الدولة العباسية، فإن للمنصور والمهدي سلفًا في ذلك، فقد أوقع المنصور بوزيره أبي أيوب المورياني وقتله وأقاربه، واستصفي أموالهم لخيانة مالية اطلع عليها منهم. وأوقع المهدي بوزيريه أبي عبد الله معاوية بن يسار، ويعقوب بن داود، لوشاية كانت بهما، مع نزاهة الأول وحسن سيرته، ومع ما كان للمهدي من الولع بالثاني حتي كتب للجمهور أنه اتخذه أخاه في الله. كل هذا قد سُبق به الرشيد. ولقد كانت أسرة البرامكة وبحق غرة علي جبين الدولة العباسية، لما كان لهم من المآثر والفضائل والسخاء والأعمال العظيمة في الدولة، خصوصًا أيام الرشيد، فالأب يحيي بن خالد كان المسئول عن تربية الرشيد، وزوجته أرضعت هارون الرشيد، وهو الذي حافظ لهارون علي ولاية العهد عندما همّ الخليفة الهادي بخلع أخيه الرشيد، وهو الذي قام علي أمر وزارة الرشيد أفضل قيام حتي فوض له كل الأمور، أما ابنه الأكبر الفضل فكان أخا الرشيد في الرضاعة والمسئول عن تربية الأمين، ابن الرشيد، واستطاع أن يقضي علي فتنة يحيي بن عبد الله في بلاد الديلم، واتخذ من جندها جيشًا كبيرًا تعداده 50 ألف جندي، جعل ولاءهم له مباشرة، وسماهم «العباسية». أما جعفر سبب النكبة فهو نديم هارون الرشيد وخليله في المجالس، وله من الأعمال الكبيرة أيضًا، فهو الذي قضي علي العصبية القبلية في الشام سنة 180 ه، ثم جعل له ولاية خراسان والشام ومصر، وجعله مسئولاً عن تربية ابنه المأمون. أما موسي الأخ الثالث فكان كل همه القتال والغزو بحكم شجاعته الفائقة، وكانت هذه الشجاعة أحد أسباب نكبتهم، حيث غار منه بعض القواد الآخرين وسعوا فيه عند الرشيد. واختلف المؤرخون فيما بينهم في السبب الذي دفع الرشيد إلي التخلص من الأسرة البرمكية علي الرغم من أعمالهم العظيمة، واختلقت روايات كاذبة عن ذلك، أجمع المحققون علي بطلانها، أمثال قصة العباسة أخت الرشيد مع جعفر، أو الربط بين أصل البرامكة، وهم مجوس، ولكن نستطيع أن نلخص من خلال الروايات التاريخية المحققة الأسباب التي أدت بالبرامكة إلي هذه النهاية الأليمة، في الآتي: 1- حادثة يحيي بن عبد الله الطالبي: الذي خرج إلي بلاد الديلم ودعا لنفسه هناك، وبايعه كثير من الناس، وقويت شوكته، وذلك سنة 176ه، فأرسل إليه الرشيد الفضل بن يحيي، واستطاع الفضل أن يستنزل يحيي بالسلام علي أمان له عند الرشيد، وذلك من غير أن تراق نقطة دم، وعد ذلك من أفضل أعمال الفضل. وبعد فترة ظهر من يحيي ما أوجب عند الرشيد نقض الأمان، فأمر بحبسه عند جعفر بن يحيي البرمكي، وفي ذات ليلة اجتمع يحيي مع جعفر، وما زال به حتي أطلقه جعفر وزوده بالمال اللازم لخروجه من بغداد، فوصل الخبر إلي الرشيد، وكان ذلك يعد خيانة عظمي عند العباسيين لشدة خوفهم من الطالبيين، فخاف الرشيد من تآمر آل برمك مع الطالبيين من أجل إقصاء العباسيين، فأمر بقتل جعفر وحبس باقي الأسرة. 2- الترف الشديد: كان البرامكة يعيشون في ترف شديد جدًّا، حتي إنهم كانوا يبنون قصورهم ويضعون علي الحوائط بلاط الذهب والفضة، وبني جعفر بيتًا له كلفه عشرين مليون درهم، وكان الرشيد في سفر ذات يوم، فلم يمر علي قصر ولا إقليم ولا قرية إلا قيل له: هذا لجعفر. وهذا السرف جعل الرشيد يتابعهم في الدواوين والكتابات، فاكتشف وجود خلل كبير في مصاريف الدولة. 3- الفضل بن الربيع: وكان من موالي العباسيين، وكان وزيرًا للرشيد ويوصف بأنه كان داهية شديد العداء للبرامكة، ويقال.. إنه هو الذي سعي بهم عند الرشيد، وأظهر عيوبهم، وغطي محاسنهم، ووضع عليهم العيون، حتي استطاع أن يرصد حادثة هروب يحيي الطالبي عند جعفر، فأخبر بها الرشيد، وزين له أن البرامكة يريدون الخلافة للطالبيين. 4- جيش البرامكة: ولعل هذا السبب عندي هو الأوضح والأقوي مع حادثة يحيي الطالبي، وأصل هذا الجيش كما ذكرنا كوّنه الفضل بن يحيي من جند خراسان (وتلك البلاد معروفة تاريخيًّا بولائها للعباسيين، ولكن ميلهم أكثر للطالبيين وآل البيت)، وجعل ولاءه له مباشرة دون غيره، ثم استقدم منهم عشرين ألفًا لبغداد وسماهم «الكرنبية» مما حرك هواجس الرشيد، غير أنه لم يتحرك حتي جاءه خبر من والي خراسان عيسي بن ماهان أن السبب في اضطراب خراسان هو موسي بن يحيي من بغداد، فتحقق الظن عند الرشيد، وعندها قرر الرشيد عند رجوعه من الحج الإيقاع بالبرامكة، فأمر بقتل جعفر وصلبه علي جسر بغداد، وحبس باقي البرامكة في السجون، والاستيلاء علي أموالهم وقصورهم وكل ما لديهم، وساموهم في السجن سوء العذاب، وتبدل نعيمهم بؤسًا، وماتوا واحدًا تلو الآخر في السجون. للحديث بقية إن كان في العمر بقية، الجمعة القادمة وكيل مجلس الدولة ورئيس حكمة الجامعة العربية