عجبا للغتنا العربية التي منحت خصمين متضادين لا يعترف أحدهما بالآخر نفس الأحرف. وكأنها من سخريات القدر في حياتنا أن يكون التفكير والتكفير من نفس الأبواب الحرفية مع اختلاف شاسع في المعني. فما بين فعل يعتمد علي العقل- تلك الأمانة التي حملها الإنسان وأبت السموات والأرض أن يحملنها- الساعي للفهم و المعرفة و التغيير و النهوض بحياتنا والسمو بها وقبول الآخر. وبين فعل يرفض الآخر من مبتداه ويري فيه خصما ناقص الكفاءة و التدين و القرب من الله, ما بين هذين الشتيتين من الأفعال تتبدي أزمتنا في عالمنا العربي بين ساعين لنور المعرفة و مجاهدين في ظلمة الدم, وتائهين بين كليهما. أزمة التكفير بدأت منذ مئات السنين دون ان يكون لها علاقة بدين وإن استخدم فيها ببراعة, ليكون الاعتراض علي الشائع كفرا, والجدال حراما, والنقد مكروها, و الاتباع محمودا, والعنعنة دليلا, وطاعة أولي الأمر-أيا كانوا- فرضا. وهكذا كان مقتل هيباثيا أهم عالمة فلك و رياضيات في القرن الثالث الميلادي بالإسكندرية من قبل مسيحيين لأنها لم تؤمن مثلهم فوصفوها بالهرطقة, وقتلوها دون سماع دفاعها, جروها في شوارع المدينة الحجرية حتي سالت الدماء من جميع انحاء جسدها. ليصمت صوت العقل لسنين حتي مجيء الإسلام ليعلي من شأن التدبر و التفكر ورغم هذا كان التكفير ملاصقا لمن أبدع في استعماله واعمال عقله كما قال الله. حدث هذا مع ابن سينا والرازي والخوارزمي والبيروني وابن الهيثم و السهروردي و الكندي والفارابي والغزالي وابن رشد وغيرهم كثيرون تعرضوا لدواعش زمانهم. يكفي أن أنقل لكم ما قاله ابن القيم عن العالم والطبيب والفقيه والفيلسوفابن سينا في إغاثة اللهفان من أنه إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وما قاله عنه الكشميري في فيض الباري من انه- ابن سيناء-الملحد الزنديق القرمطي. وما قاله عنه الشيخ صالح الفوزان بأنه فيلسوف ملحد! واسمعوا وصف ابن القيم للطبيب و العالم والفيلسوف أبو بكر الرازي من أنه ضال مضلل! وهكذا حاربنا التفكير بالتكفير لا بنقد الفعل ونتائجه ليتواصل الصراع غير المتكافيء بينهما. فعل يحاور المنطق وآخر يرفضه. لم تكن المشكلة في الإسلام بل كانت في استخدام الإسلام, كما لم تكن المشكلة في المسيحية بل في استخدام المسيحية حينما مورس التكفير ضد جاليليو وكوبرنيكوس ونيوتن وفولتير وديكارت و طاردوهم واحرقوا كتبهم ونكلوا بهم. ولم تنج أوروبا إلا حينما قررت فصل الدين عن السياسة, وابعاد سيطرة كهنة المعبد عن السياسة. يبقي السؤال لماذا يمارس فعل التكفير عنفه ويسعي لفرض سيطرته علي فعل التفكير؟ الإجابة بسيطة يا سادة...فما أجهل صاحب التكفير وما أزيف كلماته وحججه وما أسهل كشفها ومحاججتها بمنطق صاحب العقل, وما أيسر كشف تعصبه دون الحاجة لسيف أو بندقية أو قنبلة. يعري صاحب الفكر صاحب السيف بكلماته وهو جالس في مكانه دون أن يريق دمه فيعيش بذنبه لأنه يعرف بعقله حرمة الدم و حرمة النفس التي حرم الله قتلها الا بالحق. بينما الأخر باع عقله لغيره وتبعه دون مناقشة, صار حالما بأوهام التدين و القرب من الله كالغائب في أثار مخدر غير قابل للشفاء من إدمانه. ولذا كان شرط الانضمام لأي جماعة عهد الطاعة العمياء, أن تترك عقلك علي أبوابها فلا تناقش ولا تجادل ولا تنتقد, صدقهم إن أخبروك أنك الأفضل ومن دونك فلا. أطعهم إن طالبوك بقتل جار أو زميل أو بريء لا تعلم عنه شيئا طالما ارتضيت فعل التكفير و عاديت فعل التفكير. وللحديث بقية