(3) الحزن في حياة السالكين هو دمعة حب نبيل سكبتها عين الحبيب محمد صلي الله عليه وسلم علي ابن من أولاده أو بنت من بناته, أو علي واحد من أصدقائه, هذا الحزن كبر مع الأيام ونما حتي صارت الدمعة مثل اللولؤة تومض في الليالي الحالكة فكانت نورا وهداية لنفر من عباد الله عشقوا الجمال.. هذا رسول الله.. يكتب لملوك الأرض طالبا إليهم أن ينبذوا غرورهم الباطل, ثم يصغي في حفاوة ورضا لأعرابي حافي القدمين يقول في جهالة: اعدل يا محمد فليس المال مالك ولا مال أبيك. دخل مكة منتصرا ومعه عشرة آلاف مقاتل, كل واحد منهم ينتظر الإشارة لتتحول دروب قريش أنهارا من دماء, والكل ينتظر مصيره, لكنه يصفح ويسامح.. يقف في صلاته يتلو سورة طويلة من القرآن في انتشاء وغبطة لايقايض عليها بملء الأرض ذهبا, ثم لايلبث أن يسمع بكاء طفل رضيع كانت أمه تصلي خلف الرسول في المسجد, فيضحي بغبطته الكبري وينهي صلاته علي عجل رحمة بالرضيع الذي يبكي. كان في عظمته تواضع يمشي علي الأرض, يحلب شاته ويخيط ثوبه ويخصف نعله, ويجمع الحطب لأصحابه في اسفارهم ليوقدوا نارا تنضج طعامهم.. كان له حضور الملوك, وكان أصحابه لا يهابونه لجبروته وسطوته, بل يحبونه ويمتثلون لأوامره لأدبه الجم ورحمته, فلا صوت يرتفع فوق صوته, وإن أصدر أمرا كان أسعدهم هو أكثر الناس امتثالا واستجابه, ومع ذلك كان يرتجف إن بصر دابة تحمل فوق ظهرها أكثر مما تطيق.. كان قلبه مليئا بالحب للمرأة والناس جميعا, سئل ذات مرة من أحب الناس إليك ؟ فقال: عائشة.. وقال السائل: ومن الرجال ؟ فقال عليه السلام: أبوها.. فكان رغم حزنه وهزائمه محبا للناس, وفي حياة محمد صلي الله عليه وسلم هزائم كثيرة, وهو يعلم أصحابه أن الهزائم قد تفيد أكثر مما يفيد النصر, ولكنه بعد انتصاره لم يأت علي ذكر تلك الهزائم, فقد طواها في صدره إلي الأبد بعد أن زالت مرارتها... ومع ذلك فلن ينسي ولن ننسي معه هذا اليوم, فقد ماتت خديجة ومات عمه, ولم يزل حصار قريش لبني هاشم حتي لم يجدوا ما يقتاتون به سوي ورق الشجر.. وقال النبي لنفسه لماذا لا أخرج إلي الطائف أدعو أهلها للإسلام... خرج وحيدا لم يقل لصديقه أبوبكر ولا لابنته فاطمة.. دخل الطائف ووجد أهلها مجتمعوين فألقي عليهم السلام, وبدأ يحدثهم عن رسالة الله إليهم.. ولكنهم لم يدعوه يكمل موعظته, وتهكموا عليه وأشبعوه سخرية واستنكارا.. إن القلب جريح فلا تزيدوا جراحاته, لكنهم لم يرحموه, وسلطوا عليه أطفالهم ليرموه بالحجارة, وخرج حزينا..