نعم.. الي الجحيم بالثقافة, الي آفاق المنطق بمعادلات اللامعقول, الي دروب الحضارة بممارسة البدائية, الي خوارق الفكر بأبجديات الهواة!! يتشعب المأزق الثقافي المعاصر الي انحناءات ومنحدرات وطلسمات فاقت غيرها كثيرا في مدي استحكامها واستغلاقها, ولم يكن ذلك المأزق إلا أثرا صارخا للعدوان علي الثقافة بالثقافة!! ولعل الثقافة في معناها الحضاري الثابت لم تعرف مسارا غير مسار الوضوح والمكاشفة والحقيقة وتجليات اليقين بلوغا لمراتب السمو المعرفي, ولعلها الآن وقبل الآن لم تعرف سوي مسار الغموض والزيف والخديعة والتضليل في زمن الثورة المعرفية, ولقد انطلقت بداياتها من مآثر وبطولات الوعي الخلاق لكنها أنهت مسيرتها نحو سراديب من ذاكرة الطيش والجنون!! فمن المنطقي ان يعايش مفهوم الثقافة تحورات متلاحقة في مضمونه ومحتواه بما تتجسد معه آليات الوضعية الثقافية, لكنها ليست التحورات التي تحيد به عن معناه طامسة لروحه بما يخلخل دعائم الموقف النقدي المتسق مع معطيات اللحظة الزمنية, وهنا تتجلي دراماتيكية الصراع الثقافي الساعي نحو إحداث قطيعة حادة مع الثقافات التقليدية التي يشكل الاختلاف داخلها بؤرة وجودها لدفعها قهرا نحو التوحد مع السلطة الكوكبية, وتلك إحدي فاعليات المشروع الغربي في إطار رسالته الحضارية القائمة علي ميكانيزم العزل العنصري للثقافات المتراجعة أو الثقافات الرخوة نحو إحلال استراتيجية إبادة تلك الكيانات الثقافية تأسيسا علي منهجية الاستعلاء التي قررها رينيه بيرو والقائلة إن المرء عندما يكون قادرا علي صنع صواريخ زنة ألف طن تصعد ارتفاع عشرات الكيلومترات تكون له حقوق مقدسة علي أولئك الذين لم يخترعوا العجلة!! وهنا لا يكمن خطر الشبح العالمي في التماثل قدر ما يكون قائما علي خطر الامتثال كما عبر ريمون آرون, وبين التماثل الساحق للملكة الإبداعية والامتثال المدمر للكينونة تحتدم المواجهة التاريخية مع الثقافات التقليدية لاقتلاع جذور الهوية, وهنا لا تفعل هذه الثقافات كمتغير سببي وإنما توظف كأداة أيديولوجية سياسية يزداد عمق استخدامها كلما عبرت اختلافات هذه الثقافات عن نفسها, وتجلت الآثار الواضحة مجسدة في بروز مؤشرات التخلف وما يتبعها من موجات الإحباط القومي, وليس هناك من شيء أكثر استدلالا علي احتضان الرجعية الحضارية من نشوء فلسفة خاصة تنبني محاورها علي المقارنة بمعايير استفزازية تقييما للوضعية الثقافية من ثم إقامة الفواصل العنصرية بين طبيعة كل منها, فلسفة انطوت في بعض تلافيفها بتعبير اليونسكو- علي مذبحة لغوية تنجز اختفاء لغتين كل ثلاثين يوما, وهو ما يتأكد معه أنه خلال فترة زمنية وجيزة سينقرض نصف التراث اللغوي العالمي حسب رؤية البريطاني الشهير ديفيد كريستال. ولعل ضمن السقطات الكبري التي تطيح بالقيم المركزية للثقافة وتجعلها تجوب آفاق اللامعني هي طمس آليات الحوار بتجاهل حتمية الاختلاف في إطار التعددية وبروز نماذج مستنسخة, وينسحب علي ذلك الخصوصيات الثقافية ولا يصبح من مقتضيات إدارة المأزق الثقافي المناداة بإحياء مبدأ التعايش بين الشعوب وثقافاتها, وبذلك تم إفراغ التساؤلات من مضموناتها ويتخذ منحني مغايرا: مع من يكون الحوار؟ وكيف يكون التعايش قائما بين نقيضين؟ وما جدوي الحوار في ظل غياب التكافؤ الحضاري؟ الي غير ذلك من التساؤلات المغيبة لروح الثقافة وجوهرها, ذلك بجانب شيوع التيارات الثقافية المترنحة في العقل المعاصر والمتجاوزة شرط التاريخ في جموحها كالمشروع الحداثي أو حصان طروادة المرتكز علي قيم العقلانية والإيمان بالفردانية والعلم والتقدم المحقق للحلم الطوباوي للبشرية والممهد في ذات الآن لتقليص المشاعر الدينية والتحرر من جلال المقدس والسلطة معا, نتيجة الإشباع والتوقد الذهني الداعم لتنامي تيار الوعي التاريخي.