يستطيع أن ينكر أن المعرفة هى قوة وثروة فى كل الأوقات، ومن ثم فإن من يمتلك تراثًا كهذا الذى تملكه دار الكتب والوثائق القومية المصرية لا شك أنه يشارك فى ضخ المعرفة وإنتاجها بشتى صورها.. فتلك الدار التى تقع بجوار فندق كونراد على كورنيش النيل برملة بولاق بالقاهرة، منذ نقلها من القلعة عام 1989، لا تعد مكانًا لحفظ الوثائق والتراث الذى يثبت الحقوق والنسب ويؤرخ للأحداث المحلية فحسب، بل أصبحت إحدى المؤسسات الثقافية الرئيسية فى مصر، وقلعة رئيسية من قلاع المؤرخين والمثقفين والأدباء والمفكرين وكل رجالات السياسة والثقافة واللغة على الإطلاق.. فمن لم يدخلها فما زار أدبًا ولا قرأ التاريخ، ولا حق له التسجيل فى دفاتر المثقفين.. صحيح أنك حينما تحتك بها فإنك تحتك بكثير من المشاكل المعرفية والمهنية والثقافية وغيرها، وصحيح أنها كغيرها من المؤسسات المصرية قد أصابها من العطب والإهمال ما أصاب، غير أنها تظل إحدى قلاع المعرفة الأهم فى الدولة المصرية.. ونافورة من نافورات الأدب واللغة والتاريخ والفقه والقانون وكل مجالات العلوم والحقوق.. فإذا أردت معرفة أثرية وتاريخية وإسلامية فعليك بدار الكتب والوثائق القومية.. وإذا أردت زيارة الماضى، وطلبتَ معرفة قانونية وفقهية ولغوية واقتصادية واجتماعية وأدبية وعلمية فعليك بدار الكتب والوثائق.. فمن جحد فضلها فهو جاحد.. ومن ضل طريقها فلا شك أنه آبق وجاهل ومدعٍ للثقافة. لكنك حينما تحتك بتلك الدار وتعايشها لا تكتشف أنها خلاصة الاهتمام المصرى طوال التاريخ بعملية أرشفة الوثائق والكتب وتنظيمها وترتيبها، بدءًا من أيام الفراعنة، مرورًا بالعصور الإسلامية والحديثة على اختلاف حكامها، فحسب، بل تفاجئ بأنها إحدى مؤسسات الهيمنة والفرض الإجبارى لنوعية معينة من الثقافة.. وفى هذا الإطار اختلفت الآراء حول وظيفة دار الكتب والوثائق القومية فى سنينها الأخيرة، وما إذا كانت قد شهدت تطورًا ملحوظًا فى كثير من قطاعاتها الداخلية؟، أم أنها كانت أداة النظام فى تصدير الدراسات التى تدعم استقرار الحكم وتقوية التيارات الليبرالية والعلمانية، ووضعها فى سدة وزارة الثقافة؟.. ولعل الكتابات التى خرجت فى أعقاب ثورة 25 يناير، والتى ترسخ لمفهوم الحظيرة الملتصق بوزارة الثقافة عمومًا، تراه أكثر وضوحًا وتفصيلاً على دار الكتب والوثائق القومية.. فقد أصبحت ملجئًا لكل من ترضى عنهم النظم الرسمية الحاكمة.. وأداة من أدوات التحكم فى المخرجات الثقافية التى تبث للجماهير.. لترسخ من خلالهم بعض المفاهيم المرتبطة باستقرار الحكم، وتدشن لمفردات العولمة والسلام والرأسمالية التى تخدم مصالح النظام مع الخارج الإقليمى والدولى.. ولعل نظرة واحدة لواجهة القفص داخل تلك المؤسسة، فإنك سترى أنها انعكاس لتلك القوى المهيمنة على كل مؤسسات الدولة الأخرى.. وأن بقية العمال والموظفين ليس لهم إلا التعب والنصب.. هكذا كانت حينما أنشئت سنة 1829 كدار للمحفوظات المصرية، الدفترخانة، لخدمة مشروع الحداثة والدولة الوطنية الذى تبناه محمد على.. وهكذا تحولت تحت مسماها الجديد، دار الوثائق القومية سنة 1954 سواء فى باب الخلق أو فى موقعها الحالى فى رملة بولاق، تحت مسماها دار الكتب والوثائق القومية، منذ سنة 1989، لخدمة النظم القائمة منذ عهد عبد الناصر وصولاً لمبارك. وهذا لا يعنى أن الدار لا تضم بين جنباتها إلا وش القفص الذى يُخدم على مصلحة النظام فقط، بل تضم خبرات وكودار قل أن تحظى بها أى دولة من دولنا العربية والإسلامية.. فهؤلاء العظام يدركون وظيفة الدار الحقيقية فى خدمة التراث والهوية الإسلامية والعربية للدولة.. وهؤلاء يساهمون فى إبراز الخصوصية الحضارية لمصر عبر محيطها العربى والإقليمى.. ويدركون الوظيفة الرئيسية لها، المتمثلة فى كتابة التاريخ القومى والعربى والإسلامى واللغوى، وأنها أداة من أدوات نقل الخبرات المحلية والإقليمية والدولية.. ويعتبرون أنفسهم على ثغر من الثغور، فيحفظون وثائق الحدود وخرائطها من كل إهمال، ويخرجون المؤلفات التى ترسخ للوحدة الوطنية وتعمقها دون مبالغة، ويساعدون فى قراءة التاريخ السياسى والثقافى والاجتماعى والاقتصادى. ولما كانت دار الكتب والوثائق القومية تحوى بين جنباتها نفائس التراث، وكنوز الثقافة المصرية ومأثوراتها، وتضم زخائر المخطوطات العربية والعالمية، فإنها تعد أهم المؤسسات المصرية فى قراءة الماضى ودراسته.. وفى هذا الإطار فهى مشغولة دومًا بثلاثة أمور: أولها، إتاحة الوثائق والتقارير والمصادر الأولية والمعرفية للباحثين والمؤرخين وكل طلاب العلم والمثقفين.. ثانيها، طباعة ونشر الجديد فى الفكر الإنسانى وفى الثقافة المصرية والعربية.. ثالثها، تطوير تقنياتها والمحافظة على كنوزها من تأثير عوامل التلوث والتعرية.. لهذا فإنها تعد من أغنى المؤسسات العلمية والثقافية والوثائقية، وأكثرها إشعاعًا وتنويرًا.. فرغم أن كثيرًا من المؤسسات الثقافية المصرية قد خبا بريقها فى عهد مبارك وانطمس إشراقها أو كاد، وأصابها من العقم والإهمال ما أصاب، وأصبحت فى وضعية مزرية تحاكى الحالة العامة السائدة فى البلاد، إلا أن دار الكتب والوثائق القومية تعد بمثابة المؤسسة الأكثر حظًا فى استمرار دورها الثقافى، للطبيعة النوعية لعملها، وابتعادها عن مناطق الاشتباك المباشر مع النظام.. وإذا كانت دار الكتب والوثائق القومية تعد إحدى قلاع مصر الناعمة ومصدر فخرها، فإن التغيير الذى لحق ببعض قطاعات الدولة لم يشملها إلا شكليًا.. ومن ثم، فإننا بحاجة ماسة لتغيير حقيقى لا يشمل نواحيها الإدارية والتنظيمية فقط، بل يشمل قوانينها وفلسفة عملها، وطبيعة الرسالة التى تقوم بها. د. أحمد عبد الدايم محمد حسين- أستاذ مساعد التاريخ الحديث والمعاصر- جامعة القاهرة.