كان طالبا مجتهدا, شديد الأدب, قليل الكلام, محبا للانطواء, متأذيا من العلم والمناهج الدراسية الجامعية وخاصة منهج اللغة الفرنسية. كلما توجهت إليه بسؤال عن الأدب الفرنسي أو الترجمة أجابني بصدق وعفوية: أنا ماكنتش عايز أدخل قسم اللغة الفرنسية ولاحتي الجامعة. أنا لاعب كرة قدم موهوب, بس معرفتش أقتحم مافيا الملاعب. حلمي ضاع من بدري قوي, من وأنا لسه في الحارة. كنت معتادة علي هذا النوع من إحباطات الشباب الذي تدق عنوقهم مكاتب التنسيق معصوبة العينين متجمدة الفكر. ولم أكن أهتم كثيرا بما قد يدور داخل عقولهم اليائسة تجاه أولي خطوات مستقبلهم ضبابي الرؤية. ومضي العام الأكاديمي بروتين لا تتغير فيه سوي الوجوه والمشكلات الإدارية. وأثناء امتحانات نهاية العام لاحظت تغيب فوزي في جميع المواد. تعجبنا جميعا وسألت صديقه الوحيد فقال لي:فوزي مع الحور العين دلوقتي فأجبته في التو واللحظة:وليه مارحتش معاه؟ فقال لي وفي عينيه حزن شديد لذكري تعتصر لحظاتها السوداء ألم دفين: خفت أسافر وأفجر نفسي معاه بالحزام الناسف. وتذكرت والدة فوزي التي التقيت بها في مكتبي بسبب شكوي الأساتذة لكثرة غياب الابن. وكانت سيدة بسيطة تتشح بالسواد مثل غالبية الأمهات الكادحات اللائي يضحين بقوت يومهن من أجل حلم الأب الذي رحل قبل أن يري بعينيه الحانيتين الشهادة الجامعية التي يحملها فلذة كبده. واستعدت حرارة دموعها التي كانت تسيل بسبب فوزي الذي يطول سهره علي المقهي مع أصدقائه وعدم اكتراثه بالذهاب إلي الجامعة أو حتي بالاستذكار بالمنزل. شريط حزين مر أمام عيني وكأني أسترجع فترة إعداد هذا الشاب الذي تضافرت كل الجهود لكي تحول يأس اللاعب الموهوب إلي قنبلة موقوتة في شهور قليلة. ورغم أنه لا توجد علاقة مباشرة بين التعليم والتطرف الفكري, أيا كانت الديانة أو المعتقد, إلا أن التعليم يظل له الدور الأكبر في تشكيل العقل والفكر والوجدان والسلوك لدي قطاعات واسعة من الشباب الذين لم يحظوا إلا بتعليم هش في مدارس آيلة للسقوط فكرا وشكلا وموضوعا. وتتناوب علينا في الجامعات المصرية تلك العقول الخاوية والمهيأة لاستقبال أيديولوجيات تتصف بالتطرف والجنوح الفكري غير المستقيم في كل الاتجاهات السياسية والدينية والاجتماعية. فإخفاق العملية التعليمية التي تقوم علي الحفظ والتلقين الديكتاتوري للمدرس, جاهلا كان أو مثقفا, والدور السلبي للتلاميذ والطلاب الذين يبحثون عن شهادة مطوية في نهاية المراحل التعليمية المختلفة, ناهيك عن غياب البعد التربوي والأسري الذي أدي أخيرا إلي رصد قليل من حالات تحرش الفتيات بالزملاء بالجامعات, كل ذلك قد أسفر عن بيئة خصبة لجمود الفكر والخنوع العقلي ورفض الحوار وتشويه الاختلاف في الرأي والعقائد والثقافات. يا وزيرا التربية قبل التعليم, والبحث العلمي قبل التعليم العالي, إن سرعة انهيار التعليم في كل مراحله ومستوياته وقطاعاته وإداراته تزداد بصورة مخيفة تجاوزت حدود الإصلاح. لا بد من إعادة البناء الشامل طبقا لخطة إستراتيجية واعية بعيدا عن بؤر الفساد الذي ينخر في عظام العام والخاص علي حد سواء. تلك المهمة القومية, الملحة وطويلة المدي, تفوق الحلول الأمنية علي مدي تعاقب الأجيال المختلفة. التعليم السوي هو السبيل للقضاء علي منابع التطرف وإعادة بناء العقل وتنمية ملكاته وقدراته وبناء المواطنة علي أسس واعية خاصة لدي أصحاب النفوس الضعيفة ممن ملأ قلوبهم الغضب أو الحقد وغيبت بصيرتهم وسلبت إرادتهم ففقدوا حتي الرغبة في الحياة. [email protected]