أي ركود حل بالوعي الوطني الجزائري، فانعكس في شكل تبلد في الضمير، وتعقد في النظر والتدبير؟ إنه ركود أصاب نبض الشعور في بعض الجزائريين، فصرفهم عن الرّيادة التي تقلدوها بفضل ثورتهم التحريرية، ونزع منهم القيادة التي تبوءها ، عندما ضربوا للناس أروع مثل ، في الذود عن الأوطان والدفاع عن حق الأرض والإنسان. فالذين واكبوا مسيرة الثورة ، وفجر الاستقلال الذي انبثق عنها، خصوصا من المخضرمين أمثالنا، يدركون هول النكسة التي حلت بالروح الجزائرية، وخطورة الغصة التي سكنت في حلق بعض أبنائنا ، فضربت فيهم موطن الحب الوطني وهو الجنان ، وموقع النطق العربي وهو اللسان. فلأمر ما أصبح الجزائري في أي موقع حل به، عنوان هجانة منبوذة ، ورمز رطانة غير معهودة. إن الجزائري في منطق الكثير من إخواننا العرب، هو الإنسان الذي يعيش خارج ذاته، فهو منفي وسط منفى ثقافي لغوي، هو المنفى الفرنكفوني، وهي تهمة غير مؤسسة، ولا يستحقها الجزائريون، لأن المسؤول عنها، فئة قليلة من الناس مكن الاستعمار لفكرها، أغدق عليها من نعمه الظاهرة والباطنة، فكونها حسب منهجه وتسييره ، وركب فكرها وعقلها وفق تجنيسه وتنصيره ، ثم فتح لها آفاق إعلامه وتبذيره لتكون المعبر المزيف عن لسان الجزائريين وثقافتهم ، وما هم بالمؤهلين لذلك. فالجزائر العميقة ، بشعبها العربي اللسان، الإسلامي الجنان، الأخلاقي القرآن، هي هذه التي جسدها علماء بجاية وتلمسان، وقسنطينة، والقيروان ، ممن أنجبوا للثقافة العربية الإسلامية ، افضل البلغاء ونشروا في الوطن الإسلامي كتب العلماء الفصحاء، والذين منهم إذا ذكر علماء النحو ، ذكر بن أجروم وابن معطي، وإذا ذكر التاريخ ذكر ابن خلدون وسعد الله، وإذا فاخرت الأوطان ببلغائها، ذكر المقري التلمساني ومحمد البشير الإبراهيمي، وإذا تحدث الناس عن الأدب والشعر، فاخرت بمفدي زكرياء ومحمد العيد، فكيف تسللت إلينا هذه التهم الملصقة بمثقفينا، من روادنا ومفكرينا؟ نحن – في الجزائر – أصحاب إرث عربي إسلامي محفوظ، وذوو تراث وطني ملحوظ، ولأمر سياسي وإعلامي ما، رسب أهل الفكر لثقلهم، وطفا على السطح منسلبون ومغزوون، فكريا، وثقافيا، ووطنيا، "لأن المخرج عايز كده" على حد تعبير إخواننا المصريين. إن مشكلة هؤلاء الممثلين ظلما لثقافتنا في المحافل، أنهم من الذين يعانون سواد الظلام المسدل على الذات، مجسدا في انسلاب العقل ، وتيه على كل دلالات ونصوص النقل، هم "يسحلون" في كل محفل على لغتنا، وهم يشوهون في كل منبر، كنه وجوهر هويتنا.. وما أولئك بالوطنيين فنجادلهم بالمنطق الوطني، ولا بالمؤمنين فنحاججهم بالبرهان الإسلامي. غير أن انعكاسات خطورة هذه الشرذمة من الحائرين، الذين تاهوا عن حقائق أوطانهم، وداسو كنوز دينهم وبرهانهم ، قد وضعت الجزائريين كلهم في خندق الجاهلين للغتهم وهم العارفون بها، والمنكرين لعروبتهم وهم المعتزون بها. والموصوفين بالفرنكفونية وهم الكافرون بها. فمنذ أيام زارتنا مستشرقة إيطالية متخصصة في الأدب العربي عموما، والأدب الجزائري على الخصوص، إنها المستشرقة " بولانده كواردي" ، جاءت إلى الجزائر بدعوة من الجمعية الجاحظية التي يترأسها الروائي المعروف الطاهر وطار. قالت لنا المستشرقة الإيطالية : "إنكم منسلبون ولا سيادة ولا استقلال لثقافتكم" ، وعللت ذلك بكون الإيطاليين لا يعرفون الأدب الجزائري بالشكل الصحيح ، بسبب أن كل الأعمال الجزائرية المترجمة إلى الإيطالية ، تمر بالضرورة عبر الفرنسية، وهي في غالبها الأعمال التي تسيء للجزائر، وتقدمها على أنها بلد الدمار والموت. والغريب في الأمر أن هذه الأعمال تلقى الدعم من وزارتي الخارجية والثقافة الفرنسيتين. (أنظر مقال د/ عثمان سعدي في الشروق اليومي بتاريخ فاتح أبريل 2006م بعنوان: مخدر الفرنكفونية) إن من أعراض الإعاقة في الثقافة الجزائرية بروز ما يسمى بالأدب الجزائري المعبر عنه بالفرنسية، والذي لا يعبر في الحقيقة عن الشعب الجزائري. وقد كفانا الأديب الجزائري الراحل مالك حداد الكاتب باللغة الفرنسية الذي سئل عقب محاضرة ألقاها بتونس في 31/1/1972 م ، سئل عن رأيه في الأدب الجزائري المعبر عنه باللغة الفرنسية فأجاب: "لا يوجد أدب جزائري معبر عنه باللغة الفرنسية ، وإنما يوجد أدب فرنسي ذو اهتمامات جزائرية". ثم ما بال هؤلاء المنفيين داخل منفى الفرنكفونية لا يأخذون العبرة الوطنية والثقافية من زعيمهم جاك شيراك ، الذي قاطع منذ أسابيع إحدى جلسات المؤتمر الأوربي، عندما وقف المحاضر الفرنسي في موضوع علمي، يلقي محاضرته باللغة الإنجليزية، فاحتج شيراك على عدم استخدام مواطنه اللغة الوطنية الفرنسية. إننا كجزائريين وكعرب، لا عقدة لنا مع الثقافة الفرنسية أو الإنجليزية أو الإيطالية أو الإسبانية أو غيرها، فكل ثقافة هي إثراء لعقل بلدها ، ولكن هذه الثقافة تتحول إلى إعاقة عندما تغادر بلدها وشعبها، لتتسلل إلى عقل شعب بلد آخر، إذ تصبح آنذاك احتلالا للعقل، بالقوة، في محاولة لتزييف إرادته. فمتى يعي بعض الجزائريين خطورة ما هم فيه من انسلاب ؟ ، ومتى يعملون على تحرير عقولهم وآرائهم مما هم فيه من منفى الفرنكوفونية الذي بدد شحنتهم ، وشوّه سحنتهم.؟ abguessoum@ yahoo.fr