يقترب العمر من نهايته, تجري أيامه كما الرهوان, لا تتوقف ولا حتي تبطئ من سرعتها, تقودنا بلا رحمة في اتجاه واحد بلا عودة, تأكل شبابنا وتلتهم نضارة أجسادنا, تنهك القلب وتوهن العظم وترسم علي الجباه خرائط من تجاعيد يفيق الواحد منا من سكرته فيجد نفسه وقد تجاوز الستين, أبيض الشعر, محني الظهر, كليل البصر, خائر القوي, ينظر خلفه فلا يجد إلا ذكريات تمر في مخيلته كسحابات صيف سرعان ما تتبدد, يبتسم في أسي, ينقل قدميه المثقلتين بالألم, خطواته قصيرة مرتبكة, ينجو من السقوط خطوة بعد خطوة, ولكنه يعرف في قرارة نفسه أنه سيسقط, إن لم يكن في الخطوة القادمة ففي التي بعدها. عم نبيل رجل في خريف العمر, لا يشعر أنه عاش حياة طويلة, كانت أيامه كأنها يوم واحد يتكرر ويتكرر حتي الملل, يوم واحد ملؤه الشقاء والكد والتعب بحثا عن لقمة العيش, يفتش عنها هنا وهناك, يجدها بعد عناء فيغمسها في فائض الصبر والرضا, يضاحك رفيقة دربه: ماحدش بيبات من غير عشا, تبتسم له في وهن وتدير وجهها لتخفي عنه نظرة انكسار في عينيها, يضع جنبه علي سريره المتهالك ويغمض عينيه ويروح في نوم متقطع. لا يقلق عم نبيل الطعام, تكفيه وزوجته لقيمات, اعتادا معا شظف العيش والطعام القليل, ولا يقلقه ما يلبس, فأي هدمة يجدها يرضي بها ما دامت تستره, ولم يكن يوما ممن يتباهون بالملابس الغالية أو زاهية الألوان, ما يشغل فكر عم نبيل هو مرضه, داء السكري صديقه المزمن ورفيق دربه منذ سنوات, كان في نهايات شبابه عندما علم أنه مصاب به, حزن قليلا ولكنه انصرف إلي شئون حياته يدبرها كيفما اتفق, التزم بتعليمات الأطباء وتناول العلاج كلما توافر, كان جسده الذي أدمن العمل والكد قادرا علي تحمل المرض, فألفه وتعايش معه, ولم يشك إلا قليلا. قبل سنوات قليلة بدأ عم نبيل يشعر بآلام في القدم اليمني, كانت آلاما محتملة, ظنها في البداية نتيجة التقدم في السن, ربما لو ارتاح قليلا يذهب الألم, لكن الألم ازداد, وأصبح يشعر بتخدر قدمه, ومع الوقت بدأ يفقد الإحساس بها, وأصبحت باردة, والبرودة علامة الموت, انتابت عم نبيل المخاوف فأسرع إلي المستشفي, لم يطمئنه الطبيب, كتب له أدوية وطلب منه أن يلتزم بتناولها وبجرعاتها حرفيا, أخبره أن مرضه بالسكر أثر علي قدمه, عرف عم نبيل لحظتها أن قدمه تحتضر وأنه ربما تسبقه إلي القبر بعد بترها فاجتهد قدر استطاعته في تناول العلاج وأداء بعض التمارين البسيطة, لكن إرادة الله نفذت. استمر التدهور في قدم عم نبيل, أصابتها القروح والجروح وضمرت أعصابها, لم يعد العلاج مجديا وأصبحت حياته كلها مهددة بسبب قدمه, فدخل إلي مستشفي معهد ناصر في يوليو2014, وأجريت له عملية بتر فوق الركبة, وبعد أسبوع عاد إلي بيته وإلي زوجته بقدم واحدة. عم نبيل يعيش في شقة متواضعة بمنطقة أم بيومي التابعة لحي شبرا الخيمة, وتعيش معه زوجته ورفيقة دربه التي يتكئ عليها وتؤنس وحدته, أصبح الآن في السابعة والستين من عمره, غير قادر علي العمل والكسب, دخله كله عبارة عن360 جنيها تصرفها له وزارة التضامن الاجتماعي كمعاش ضماني, ينفق من هذا المبلغ علي شئون حياته وأمور معيشته هو وزوجته, من طعام إلي كساء إلي إيجار وكهرباء وغيره, بالإضافة إلي علاجه من السكر ومن أمراض الشيخوخة. يناشد عم نبيل أهل الخير مساعدته في الحصول علي ساق صناعية وكرسي متحرك يستعين بهما في نشاطاته اليومية بدلا من الاعتماد علي كتف زوجته التي أرهقتها الأيام وأوهنها تقدم العمر, وهو أمل بسيط بالنسبة لكثيرين, لكن عم نبيل بإمكانياته المحدودة, ودخله القليل يعتبره حلما بعيد المنال حتي يكاد الأمل في نفسه يخبو ويتملكه اليأس, لولا إيمانه بالله وبما زرع في الناس من حب الخير.