منذ عدة سنوات يدور في مصر حديث لم ينتبه إليه أي مسئول, حول مستقبل الصحافة القومية بمؤسساتها الخمس: الأهرام, وأخبار اليوم, ودار التحرير, وروز اليوسف, ودار الهلال, في ظل عدد من العوامل طرأت علي سوق الصحافة, من بينها ظهور صحافة خاصة قوية, ودخول الإنترنت كمنافس قوي للصحافة الورقية, وسيادة عصر الفضائيات اللاهثة طوال اليوم وراء الأخبار والأحداث. وربما لأن الهدف الرئيسي للسلطة الحاكمة كان الإبقاء علي الصحافة القومية في خدمة النظام, أكثر مما تعبر عن احتياجات الوطن وتطلعات شعوبه, لم يتم أخذ هذا الحديث مأخذ الجد, برغم أن الصحافة الورقية في كل أنحاء العالم, أخذت تعاني, وبعضها أغلق, وبعضها أخذ يبحث عن حلول غير تقليدية في محاولة للبقاء علي قيد الحياة. ومنذ الخامس والعشرين من يناير دخلت الصحافة القومية في أخطر منعطف تمر به في حياتها, إذ سقط النظام الحاكم الذي كانت تعبر عنه, وظهرت قوي جديدة أخذت تنظر ليس فقط للقائمين علي أمر تلك الصحف باعتبارهم بقايا عصر انتهي, وإنما إلي الصحف القومية كظاهرة ينبغي أن تختفي. ولا ينكر أحد أن التغييرات السريعة والدرامية في السياسات التحريرية لمعظم الصحف القومية, كانت مثيرة للضحك أكثر من محاولة التعاطي معها بجدية, وتساءل الناس في الشارع: كيف لمن كان يسبح بحمد الرئيس مبارك, أن ينقلب عليه بهذه السهولة, ويكيل له الاتهامات؟ وهل من الممكن أن يؤدي هذا التغيير في المعالجة الصحفية إلي أن يطوي القراء صفحة الماضي مع هذا المسئول أو ذاك ليفتحوا صفحة جديدة؟ وهكذا أضيف إلي مشكلات العصر المتراكمة علي الصحافة القومية, مشكلة أكثر خطورة تتعلق بالمصداقية, وأصبح لزاما علي المؤسسات الصحفية القومية العمل علي حل عدد كبير من المشكلات المتراكمة والمستحدثة. وزاد من الطين بلة الأحاديث العديدة والمتتالية منذ أكثر من شهر ونصف شهر عن تغييرات منتظرة في القيادات الصحفية لم تحدث برغم تصريحات متعاقبة للمسئولين عن أنها في غضون48 ساعة, ومرت أسابيع دون أن تتم, وهو ما أوجد حالة من عدم الاستقرار ليس فقط بين الصحفيين العاملين في الصحف القومية, وإنما انتقل هذا التأثير علي التوزيع, وعلي حصيلة تلك الصحف من الإعلانات التي تعاني تراجعا كبيرا بالأساس, مما قد يوحي لدي البعض بأن هذه التصريحات من مسئولين بشأن الصحف القومية ربما يكون الهدف من ورائها إفساح السوق أمام الصحافة الخاصة لتحتل الحيز الأكبر منه, وأعتقد أن حسم ملف الصحافة القومية لا يحتمل تأجيلا أو تأخيرا أكثر من ذلك, لأن هذه المؤسسات الصحفية القومية ليست ملكا لحكومة أو حزب, وإنما هي ملكية عامة للشعب, وكل تأخير في حسم ملفاتها يعني تكبيدها المزيد من الخسائر, وتراجع دورها المفترض أن تقوم به في هذه المرحلة الحساسة التي نعيشها الآن. وفي أكثر من مقال, وفي عدة صحف, وطوال سنوات خلت كتبت عن ضرورة وضع شروط ومعايير لشاغل وظيفة رئيس تحرير أو رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحفية قومية, فقبل25 يناير كانت هذه هي الوظيفة الوحيدة في الدولة التي ليس لها شروط, ولا تعلن وظائفها في الصحف, ولا تجري مسابقات بين المتقدمين لشغل هذه الوظائف, وبعد25 يناير لم يتغير الوضع, فقد قرأنا وسمعنا جميعا أن هذا الملف في يد نائب رئيس مجلس الوزراء الدكتور يحيي الجمل, الذي تحدث عن3 شروط منها: أن يكون من المؤسسة, وأن يحدث توافق عليه داخلها, وتوافق عام خارجها, لكن ماذا عن الكفاءة والخبرة والقدرة علي الإدارة, وأن يكون المرشح لديه برنامج أو مشروع لتطوير الصحيفة التي يرأس تحريرها, أو المؤسسة الصحفية التي يترأس مجلس إدارتها, ثم من الذي يرشح؟ ومن الذي يختار؟ وهل طلب من كل من يري في نفسه الكفاءة أن يتقدم لشغل هذه الوظائف شارحا الأسباب التي تؤيد طلبه, وقدرته علي تنفيذ ما يراه لمؤسسته أو صحيفته. لدي الكثير من النخبة الحاكمة الآن اعتقاد بأن من شغلوا مناصب صحفية وإعلامية قبل الثورة يجب ألا يوجدوا بعدها, وهو ما عبر عنه رئيس مجلس الوزراء السبت الماضي في مؤتمره الصحفي, لكن هل يصلح الولاء للثورة أو تأييدها أو المشاركة فيها كمصوغ وحيد لإدارة عمل صحفي؟ صحيح أننا نعيش فترة انتقالية, وبعض ما يجري فيها انتقالي أيضا, وقد يتسم بالتسرع, لكن المشكلة الأكبر أن بعض القواعد التي يتم العمل بها في المراحل الانتقالية, يمكن لها أن تصبح دائمة بعد ذلك, ومن ثم يصعب تغييرها, لذلك فإن ملف القيادات الصحفية القادمة يحتاج إلي المزيد من الدراسة, والشروط الموضوعية التي تصلح أساسا للبناء عليها بعد انتهاء المرحلة الانتقالية, وأعتقد أن هذا الملف يحتاج إلي أن يأخذ وقته, ويتسع أيضا للتفكير فيه ليشمل أيضا شكل المؤسسات الصحفية في المستقبل, وشكل الملكية, لأنه في تصوري المتواضع لم تعد الملكية الحالية قابلة للاستمرار, وعلينا التفكير في تحويل المؤسسات الصحفية القومية إلي شركات مساهمة, كيف تطرح أسهمها؟ كيف توزع؟ من يملك الحصة الحاكمة؟ ومن يدير؟ تلك أسئلة تحتاج إلي حوار جدي حولها قد يكون أكثر أهمية من اختيار رئيس تحرير انتقالي لصحيفة ما.