جزي الله الثورات كل خير لأن فيها فتح كل الملفات التي تتجاهلها, وتؤجلها بلاد كثيرة, إما لأنها معقدة إلي الدرجة التي يصعب حلها, أو أن الانقسام الوطني حولها كبير إلي الدرجة التي تجعل بقاءها علي حالها أقرب الحلول إلي راحة البال أو أن حلها بطريقة أو أخري سوف يولد من المشكلات والمعضلات ما هو أكبر من الحالة الراهنة. ومن بين ملفاتنا الصعبة كان هناك ملف الصحافة القومية والإعلام القومي, وكلاهما كان له أسماء أخري من أول الحكومي حتي الرسمي أو عندما كانت الأحوال طيبة قيل شبه الرسمي. ومن ناحيتي الشخصية لم تكن المسألة أبدا صعبة لأنها كانت جزءا لا يتجزأ من عملية الإصلاح التي تصورتها للدولة المصرية والتي قامت علي مفهوم بسيط قوامه أن تصبح دولتنا طبيعية لا تعاني من الأوضاع غير العادية والاستثنائية التي لا تعرفها أمة أخري في العالم. وكانت الأمثلة التي ارتكنت لها دوما في الدستور المصري هي نسبة ال50% من العمال والفلاحين علي الأقل واللازمة لكل المجالس المنتخبة في مصر. وكان منها أيضا وضع الصحافة التي أصبحت سلطة رابعة دستوريا كنوع من النفاق السياسي الذي لم يكن له وجود واقعي من حيث الترتيبات التنظيمية في الدستور نفسه كما سوف نري بعد قليل. ولكن كل ذلك كان جزءا من حزمة كاملة من الأحكام التكميلية التي أضيفت إلي الدستور وجعلتني مناديا بوضوح شديد وفي مقالات عدة وفي صحيفة الأهرام أولا وخارجها بعد ذلك ومطالبا بوضع دستور جديد لمصر يزيل ما فيه من تناقضات, ويزيل ما فيه من التباسات وأوضاع لا تعرفها بلدان في الشرق أو الغرب. والسجلات موجودة, والأرشيف محفوظ الآن ورقا وبكل الوسائل الإلكترونية الحديثة, وصدرت في كتب شتي أيضا. وحتي نفتح ملف الصحافة القومية فإن تحرير القضية يقتضي العودة بنا إلي الخطيئة الأصلية التي يتجاهلها كثير منا, ربما حتي لا تعلمها الأجيال الجديدة, وربما أيضا حتي يهربوا من مسئوليتهم عنها. فساعة نشأتها الأولي, اعتمدت الصحافة المصرية علي مبادرات رأسمالية خاصة مقرونة بهدف إعلامي تنويري يحمل مضمونا سياسيا وبعدا اجتماعيا, بل إن الصحف التي يصطلح علي تسميتها بالقومية الآن نشأت بمبادرات فردية خاصة, وحققت في بداياتها نجاحا جماهيريا ومصداقية كبيرة, وهو ما ينطبق علي الأهرام وأخبار اليوم وروزاليوسف والمصور. فالأهرام كانت ملكا لعائلة تقلا وكانت روزاليوسف ملكا للصحفية فاطمة يوسف وابنها إحسان عبد القدوس, في حين كانت أخبار اليوم ملكا للأخوين علي ومصطفي أمين وأسس دار الهلال اللبناني جورجي زيدان. وظلت الحال كذلك حتي صدر قرار رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر في24 مايو عام1960 بقانون تنظيم الصحافة, وتضمن عدة نقاط جوهرية, منها اشتراط الحصول علي ترخيص من الاتحاد القومي( التنظيم السياسي الوحيد في البلاد حينذاك) لإصدار الصحف, ونقل ملكية الصحف وجميع ملحقاتها للاتحاد القومي وهي صحف الأهرام وأخبار اليوم وروز اليوسف ودار الهلال ثم أضيف إليها دار التحرير التي أنشأتها الثورة وكذلك دار المعارف, فضلا عن وكالة أنباء الشرق الأوسط التي تأسست في صورة شركة تملكها الدولة في عام1957, ويشكل الاتحاد القومي مؤسسات خاصة تتولي مسئولية إدارة صحف المؤسسة, ويعين لكل مجلس إدارة رئيس وعضو منتدب أو أكثر ويتولي المجلس نيابة عن الاتحاد القومي مباشرة جميع التصرفات القانونية. ورغم إقرار هذا القانون, فإنه أثار إشكالية مدي تبعية هذه الصحافة للسلطة التنفيذية( وهو ما عرف في ذلك الوقت بتأميم الصحافة المصرية) في الوقت التي تعد ملكية شعبية. وما يثير الاستغراب أن الميثاق الوطني الذي صدر في مصر في مايو1962 أشار إلي أن ملكية الشعب للصحافة أكد لها استقلالها عن الأجهزة الإدارية للحكم, وانتزع للشعب أعظم أدوات حرية الرأي ومنحها الكثير من الضمانات في شأن قدرتها علي النقد. وقد ظلت هذه المؤسسات العامة تابعة للاتحاد الاشتراكي خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات, وفي11 مارس1975 أصدر الرئيس أنور السادات قرارا بتشكيل المجلس الأعلي للصحافة برئاسة الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي, وبعضوية كل من وزير الإعلام, وأمين الدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي, ووكيل مجلس الشعب, ونقيب الصحفيين, وأحد مستشاري محكمة الاستئناف, وثلاثة من رؤساء المؤسسات الصحفية ورؤساء التحرير, وعميد كلية الإعلام, واثنين من أعضاء نقابة الصحفيين, وثلاثة من الصحفيين الذين تقل مدة اشتغالهم بالمهنة عن خمس عشرة سنة يرشحهم مجلس النقابة, ورئيس النقابة العامة للطباعة والنشر. وقد تمثلت أهم اختصاصات هذا المجلس في: وضع ميثاق الشرف الصحفي ومتابعة تنفيذه, ووضع اللوائح المنظمة للعمل داخل المؤسسات الصحفية والتنسيق فيما بينها, وضمان حقوق الصحفيين في التعبير عن قضايا المجتمع, وإصدار تراخيص الصحف والعمل بالصحافة للصحفيين. ومع التحول إلي التعددية الحزبية في عام1976, حدثت تغيرات جوهرية في الخريطة الصحفية المصرية, حيث نشأت مجموعة من الصحف الجديدة التي تعد لسان الأحزاب السياسية الجديدة وذلك بموجب القانون رقم40 لعام1977, وقد ترتب علي ذلك بعد إلغاء الاتحاد الاشتراكي مالك الصحف انتقال ملكية الصحف القومية ملكا للشعب ممثلا في المجلس الأعلي للصحافة, الذي يتم تشكيله وفقا لقرار صادر عن رئيس الجمهورية ويتولي رئاسته رئيس مجلس الشوري, وظل هذا الوضع قائما حتي تلك اللحظة. كانت تلك هي الخطيئة الأصلية التي جرت علي مسمع ومشهد من بعض ثوار اليوم وكيف تحولت وتبدلت أحوالها علي مدي خمسة عقود حتي وصلنا إلي الوضع الراهن تحت بصر ثوار آخرين. ولم تكن المسألة راجعة فقط إلي حالة الصحافة والإعلام وإنما كانت راجعة لمفهوم ملكية الشعب لأي من وسائل الإنتاج حيث أصبحت الترجمة العملية لذلك إما ملكية الحكومة بالنفوذ والتأثير والتحكم, أو ملكية لا أحد باسم العاملين فيها والشعب والدولة وتنظيمات سياسية ومجلس الشوري حينما لم يكن له سلطات في يوم من الأيام, ثم بعد أن اكتسب سلطات تشريعية مع التعديلات الدستورية. لم يكن في أي من ذلك فوضي بناءة ولا فوضي خلاقة ولا حتي فوضي أو نظام, وإنما هي حالة استثنائية وخاصة وغريبة كما هي العادة وكما هو ملحوظ في كثير من أوضاعنا. أمام هذه الحالة فإن المهمة الأساسية للثورة أو النظام الجديد الذي سوف ينتخب برلمانا ورئيسا خلال الفترة المقبلة هي وضع دستور جديد للدولة يجعل مصر دولة طبيعية مدنية وحديثة, وفي هذا الإطار لا توجد حاجة من قريب أو بعيد لتلك الأحكام الخاصة بالسلطة الرابعة المزعومة, ويصبح السؤال المطروح علي النظام الجديد شعبا وحكومة وصحفيين وإعلاميين هو ما الذي يفعله بالصحافة القومية والإعلام القومي في العموم. هذا السؤال كان مطروحا علي شخصي منذ تشرفت بتولي مهام رئاسة مجلس إدارة الأهرام اعتبارا من4 يوليو2009 حيث بدأت عملية للاجتهاد في الإجابة علي السؤال تكون مطروحة علي الزملاء في الأهرام, ثم بعد ذلك الأجهزة المعنية في الدولة التي بدأت هي الأخري في الشكوي من عبء المؤسسات الصحفية القومية. وفي مقال الأسبوع القادم سوف أعرض تفصيلا مسار الإصلاح الذي سارت فيه الأهرام في مجالات شتي تبدأ من المفهوم الذي قامت عليه كمؤسسة للنشر والصحافة المطبوعة, وتحويلها إلي مؤسسة إعلامية متكاملة الأركان المطبوعة والرقمية والفضائية. ومن حيث التنظيم إلي البحث في عدد من الأشكال التنظيمية التي تكفل من ناحية الاستقلال عن الدولة, ومن ناحية أخري القدرة علي المنافسة في سوق إعلامية شرسة, ومن ناحية ثالثة تحسين أوضاع العاملين في إطار يسمح بالانضباط المالي والاقتصادي. كان النظر في التجربة العالمية مفيدا ولا شك, ولكن التجربة المصرية كانت هي الأخري غنية حيث كانت تجربة شركة مصر للطيران تحت قيادة الفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء الحالي ملهمة في العديد من جوانبها فهي شركة وطنية تأسست في مايو1932 وتقدم خدمات أرضية في مطار القاهرة الدولي, وتعتبر أول شركة طيران تشغل خطوطا جوية في منطقة الشرق الأوسط. وفي يوليو2003, تغير الهيكل القانوني للشركة بموجب القرار الجمهوري رقم2002/137, حيث تحولت إلي شركة قابضة مع تسع شركات فرعية. وتلعب هذه الشركات التسع أدوارا تكاملية في خدمة صناعة النقل الجوي. وهناك حالة أخري ناجحة, وهي شركة مصر للتأمين تحت قيادة الأستاذ محمود عبد الله, التي تأسست في14 يناير1934 كشركة خاصة جري تأميمها عام1961 حيث ساهمت في قطاعات إنتاجية مختلفة, وبلغ رأسمالها وفقا لإحصاءات عام2008(1.9 مليار جنيه). وقد أجريت عدة دراسات فنية مع جهات استشارية دولية بشأن شركات التأمين العامة المملوكة للدولة, وعلي أثرها تأسست شركة مصر القابضة للتأمين بالقرار الجمهوري رقم2006/246 في15 يوليو2006, لتصبح هيكلا مؤسسيا يتابع وضع سياسات إصلاحية ويتغلب علي نقاط الضعف في هذه الشركات ويعيد هيكلتها سواء بدمج بعض الشركات أو نقل بعض المحافظ التأمينية بين الشركات وبعضها. وانتهت الهندسة المالية والمؤسسية إلي تأسيس شركات متخصصة تعود كافة عوائدها للشركة القابضة للتأمين, التي بقيت شركة عامة, ولكنها تدار وفقا لقواعد السوق وقوانينها وما فيها من منافسة. مثل هذه التجارب يصعب نقلها بحذافيرها, وهناك أمور تحضيرية واجبة في المؤسسات الصحفية العامة قبل الولوج إلي هذه المرحلة. وكان هذا ما جري في الأهرام وسوف نشرحه في الأسبوع القادم. [email protected]