كتب الدكتور حسين مؤنس العشرات من الكتب الأصيلة في التاريخ, وكتبا عن وطنه مصر, عظيمة النفع وبالغة الأثر, وكتبا عن الناس وشخصيات تاريخية مهمة, ملقيا الكثير من الضوء الخفي علي كل جوانبها, والمئات من المقالات الرائعة في مجلات الثقافة والهلال وغيرهما, ولكن كتابه الأعظم, وعمله الأكثر نفعا سيظل: أطلس تاريخ الاسلام. انه عمل أصيل وموسوعي علي أعلي مستوي علمي وعالمي, كتبه منفردا, رغم أنه يحتاج مئات المتخصصين لإنجازه. استغرقت كتابته أربعة عشر عاما كما ذكر لنا هو نفسه. ووصفته دار نشره: أنها انما تقدم تاريخا دقيقا لدول الاسلام جميعا من منظور يربط الحوادث ويفسرها, في أحيان كثيرة, تفسيرا جديدا غير ما عرفه القراء وألفوه من قبل. يقول الدكتور مؤنس في مقدمة الكتاب: منذ بدأت عملي في كلية الآداب في جامعة القاهرة ساورتني فكرة عمل أطلس للتاريخ الاسلامي علي مثال ما كنت أري الأطالس التاريخية التي يصدرونها, وقويت في بلاد الغرب. الفكرة في نفسي عندما تأملت المحاولات الخرائطية الناجحة التي قام بها بعض المستشرقين... وبدأت من أواخر1972 في العمل, فذهبت الي لندن وباريس وهامبورج, واتصلت بمؤلفي الأطالس وناشريها, وأفدت أفكارا نافعة وعملية عن طريقة انشاء الأطالس التاريخية علي أساس علمي سليم. ومنذ ذلك الحين الي أن ظهر الأطلس علي الصورة التي تراه عليها وأنا في عمل متصل لانجاز هذا الأطلس مابين قراءة وتفكير ورسم خطط وتقسيم الي فصول, وعمل تصورات لخرائط الفصول, وبحث عن الحركة التاريخية, ومحاولة رسمها في خرائط كروكية. لأن الأطالس التاريخية تصور الحركة التاريخية بين حركات الأجناس والفتوح والدول, وخطوط سير الجيوش, وتفاصيل المواقع العسكرية, وطرق التجارة أو الحج بالبر والبحر وما الي ذلك, وكل فصول هذا الأطلس وخرائطه أعيد عملها المرة بعد الأخري. والصورة التي تراها عليها الآن هي ثمرة جهد لا يصدق في التفكير والتصور والقراءة والرسم والعمل واعادة العمل. ويستمر الدكتور مؤنس واصفا كتابه العظيم: وفيما بين1982 و1986 أعدت عمل الأطلس كله مرة أخري بتشجيع الناشر علي تقديم عمل جيد ينفع العلم والناس. وأمتنا الاسلامية والحمد لله أمة علم وتأليف, وأصحاب الأعمال العلمية الباهرة ذات المجلدات الكثيرة في تاريخنا الفكري كثيرون, وأنا هنا في ميدان التاريخ أقف في نفس الخط الذي يقف في بدايته أبو جعفر محمد بن جرير الطبري شيخ مؤرخي العرب.. وعبد الرحمن الرافعي, ومن قبله كان عبد الرحمن الجبرتي ومحمد بن اياس الحنفي وجمال الدين أبو المحاسن يوسف بن تغري بردي وجمال الدين بن واصل وتقي الدين المقريزي ومن في طبقتهم, فأنا فيما فعلت مواصل لتقليد علمي عربي مصري, وواحد من خدم العلم من العرب الذين يرفعون أقدار أنفسهم وأمتهم بخدمة الاسلام وأهله. ولكني بعد أن تم هذا العمل المجيد وجدت نفسي فعلا أمام صورة لتاريخ أمم الاسلام جديدة, فان الخرائط توضح وتبين, ولكنها كذلك تعرض التاريخ في صورة جديدة وبمفهوم جديد, وقد اقتضي الأمر وضع خطة لعمل ذلك التاريخ المصور وتقسيمه الي فصول, كل فصل خاص بناحية من نواحي عالم الاسلام, وفي كل فصل مجموعة من الخرائط تمثل تطور هذا التاريخ ومراحله أو عصوره. وهذه الخطة وضعت علي أساس المعلومات المستخرجة من الأصول والمراجع التاريخية التي قرئت مرة بعد أخري, ثم العودة الي الصياغة ورسم الخرائط بعد كل قراءة, وهكذا حتي انتهينا الي الصورة التي تراها, وهي سواء في النص أو الخرائط منها تاريخ جديد لعالم الاسلام وأممه ودوله الي سنة1985, وهي أداة علمية أرجو أن ينفع الله بها الناس. كتبه في أواخر عمره وحكمته, فخرج الينا عملا رائعا وعلما نافعا. المتأمل في الكتاب الموسوعي, يجد أنه عمل لا يستطيع فرد مهما كانت قدراته أن ينجزه, ولوقضي في كتابته عمره كله. نعم كان حسين مؤنس جامعة عالميه وهو يكتب هذا الكتاب الذي ظل عليه عاكفا سنوات طويلة قدرها هو في مقدمة الكتاب: بأربعة عشر سنة الكتاب صادر عن دار الزهراء للاعلام العربي مدينة نصر القاهرة.1987. يقع الكتاب في527 صفحة من القطع الكبير الفخم, ويحوي213 خريطة تفصيلية, الكثير منها جديد, أولاها خريطة صورة الجزيرة للبلخي, وآخرها خريطة الجمهورية الاسلامية الايرانية. يحدثنا الدكتور مؤنس في الفصل الأول عن التاريخ والجغرافيا عند العرب فيقول إنهم لم يكونوا مهتمين برسم الخرائط التاريخية قبل الاسلام, لكنهم بعد الاسلام, كانوا أصحاب مدارس ومآثر وأصالة في ذلك المضمار: من المناسب أن نقدم بين يدي هذا الأطلسي التاريخي الاسلامي بمدخل عن علم الخرائط الجغرافية عند العرب, تقديرا لفضلهم في علم الخرائط عامة, واعترافا منا بأننا بهذا الأطلس التاريخي, انما نجري علي أعراف من سبقنا من أهل العلم, من المعروف أن علمي التاريخ والجغرافيا كانا عند أسلافنا العرب صنوين لا يفترقان, وفرعين توأمين لشجرة واحدة في بستان العلم الرحيب, ومازال الأمر كذلك الي يومنا هذا, فلا يتمكن المؤرخ من فنه الا اذا كان له علم متين بالجغرافيا, ولا يصلح الجغرافي الا اذا كانت لديه قاعدة سليمة من العلم بالتاريخ, لأن الجغرافيا هي علم المكان والتاريخ هو علم الزمان, والزمان والمكان هما بعدا الوجود البشري كله, والبعد الثالث هو الانسان نفسه وهو موضوع التاريخ والجغرافية جميعا. يصحح حسين مؤنس للعالم كله الخطأ الشائع أن العرب أخذوا فن الخرائط عن الاغريق, وأن خرائطهم قامت علي أساس خرائط بطليموس الاسكندري الذي ولد في أسيوط, فيقول مفندا: ليس أبعد عن الحقيقة من هذا الزعم, فان الخرائط العربية الأصيلة هي خرائط البلدانيين والمسالكين ممن قام علمهم الجغرافي علي الرحلة والمشاهدة المباشرة, وما أخذه العرب عن الاغريق من علم الخرائط هو الخرائط الفلكية التي هي فرع من علم الفلك القديم, وهو علم وهمي كله يقوم علي تقسيم الأرض ونصف الكرة الشمالي بوجه خاص الي سبعة أقاليم وهمية وأخري طولية وهمية أيضا, ثم الربط بين هذه الخطوط وأبراج قبة السماء, ومحاولة توضيح الأعلام الجغرافية علي ماتصوروا أنه يقابلها من الأبراج والأفلاك, ولم يتبع هذا المذهب من الجغرافيين والخرائطيين المسلمين الا الخوارزمي والبتاني ثم الادريسي, فأما ما رسم الأول والثاني منهما فلا قيمة له من الناحية الخرائطية, وأما الادريسي فقد لجأ الي هذا التقسيم لمجرد تسهيل قراءة خرائطه, والاستفادة من المربعات التي تنتج عن تقاطع خطوط الطول والعرض في كتابه المفصل للخريطة التي رسمها في الكتاب المطول الذي سماه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق, وهو كتاب جغرافيا كتب علي مذهب المسالكين المسلمين, وهذا هو السر في أهمية ذلك الكتاب, فهو في تعبيرنا اليوم كتاب جغرافيا بشرية وليس لبطليموس فيه الا الأثر القليل الذي تحدثنا عنه. يستمر حسين مؤنس في تفنيد حججه فيشرح لنا كتاب جغرافية بطليموس المشهور, وفي الفرق بينه وبين أصالة خرائط المسلمين وفي تصحيح الخطأ الشائع عن تأثير ذلك الأطلس علي الجغرافيين العرب, ويخلص الي تلخيص الأمر كله بمقولته الراسخة: كل كتب الجغرافيا العربية اعتمدت أساسا علي خرائط, والكثير منهم كانوا يبدءون برسم الخريطة ثم يؤلفون كتابا في شرحها, وهذا ما ذكرته مجموعة البلدانيين في كتبهم الجغرافية, بل ان واحدا منهم وهو أبو القاسم بن حوقل سمي كتابه صورة الأرض, أي أن الخريطة هي الأساس, والكتاب شرح وتعليق. ثم يستمر في ارجاع الأمر الي ذويه, فيحدثنا عن سهراب وعلم الجغرافيا, والجغرافيين العرب والأرقام الهندسية, وأنواع الخرائط عند الجغرافيين المسلمين, والموسوعيين المسلمين والمدارس الجغرافية الأصيلة, وخريطة الادريسي. ويختم بقوله:.. أن العرب لم يكونوا يقولون خريطة, بل كانوا يقولون الصورة, أو الرسم, أو لوح الرسم. والادريسي يقول لوحة الترسيم, أما لفظ خريطة فقد أخذه المصريون عن الفرنسيين عندما تعلموا الفرنسية علي أيدي الفرنسيين, وأخذوا منها لفظ كارتي, وعربوها الي خريطة. يقدم لنا حسين مؤنس بيان يحوي رسم26 خريطة أصيلة رائعة هي:صورة الجزيرة للبلخي, وصورة ثانية للعالم للاصطخري, ووصورة ديار العرب للبلخي, وصورة العراق للبلخي, وصورة ديار العرب للمقدسي, وصورة العراق للمقدسي, وصورة الأرض للمسعودي, وخريطة العالم لابن حوقل, وصورة الأرض للبتاني, وصورة تمام أقاليم الأرض للبلخي, وحوض النيل عند الادريسي, وخريطة العالم للادريسي كما كونها ميللر, وخريطة العالم للمستوفي, ومنابع النيل عندالادريسي, خريطة العالم للقزويني, وصورة الأرض للصفاقصي, وصورة الأرض للشريف الادريسي, وصورة البلاد الاسلامية بالنسبة الي مكةالمكرمة للفاقسي, وخريطة الكرة الأرضية للجيهاني, وصورة الأرض للصفاقسي, وتقسيم الأقاليم السبعة كما رسمها البيروني, وخريطة توزيع البحار للبيروني, وتقسيم الكشورات السبعة كما وردت في معجم ياقوت. يستمر الدكتور مؤنس عقب ذلك بحديثه عن مراحل انتشار الاسلام في العالم حتي اليوم بداية من موجات التوسع الاسلامية الأولي في بلاد فارس والروم والمشرق والمغرب, ومرحلة التوسع الثانية والثالثة في الهند وفي أفريقيا المدارية والاستوائية, وفي طبيعة التوسع, وفي مناهضة القوي الغربية لتقدم الاسلام, والحركة الدائمة في تاريخ الاسلام, وفي انتشار الاسلام في أوروبا والأمريكتين. ويسجل ذلك كله في خريطة أصيلة رائعة لا مثيل لها. وفي الفصل الثالث يوضح لنا بجداول تاريخية أصيلة تحوي مقارنة لأهم أحداث التاريخ الاسلامي وتعاصر الدول الاسلامية منذ ظهور الاسلام حتي آخر القرن الرابع عشر الهجري ثم يعود باستفاضة لرصد جغرافية وتاريخ العالم قبل الاسلام في أربع خرائط جديدة. ثم ينتقل الي السيرة النبوية والعصر النبوي مقدمه بطربقة جديدة في25 خريطة جديدة. ثم يسرد شجرات الأنساب العربية في أربع خرائط, ثم ينتقل الي الفتوحات الاسلامية ويسجلها في15 خريطة. ولخص الدولتان الأموية والعباسية في ثماني خرائط أصيلة. أما المغرب والأندلس فتحظي عنده بعشرين خريطة وتفاصيل تاريخية هامة, شبه الجزيرة العربية تضم ثمان خرائط, أما الجناح الشرقي للدولة الاسلامية متمثلا في ايران فيحظي باثني عشر خريطة, والهند الاسلامية بسبع, ويستمر في شرحه لحركة التاريخ وأحداثه, فيقدم لنا رؤية جديدة شاملة عن الحروب الصليبية عبر سنوات صراعها الطويلة, ويفرد لها خمس خرائط أما المسلمون في البحر الأبيض المتوسط فتشمل أربع خرائط جديدة وأصيلة شارحة نشاط المسلمين في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والنشاط البحري في البحر الأبيض المتوسط من بداية العصر العباسي حتي تواجد المسلمون في أقريطش وأعمالهم البحرية, ونشاطهم حتي القرن العاشر الميلادي وردود الفعل الغربية, وكذلك نشاط المسلمين البحري في الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط وسواحل الأندلس منذ فتحها الي عصر الطوائف في القرن الحادي عشر. أما مصر والشام فيفرد لها سبع خرائط, شاملة مصر والشام في العصر الأموي, ودولة مصر والشام في العصرين الطولوني والاخشيدي, ودولة مصر والشام ابان حكم الفاطميين, والعصر الأيوبي, وعصر المماليك البحرية والبرجية, ودولة مصر والشام أيام محمد علي. ويفرد لمصر وجغرافيتها تسع خرائط هامة, شارحة تاريخ مصر الاسلامية, وخريطة المواقع الجغرافية والتاريخية للدلتا ووكذلك التقسيم الاداري للدلتا, وكذلك التقسيم الاداري لصعيد مصر, ومصر الاسلامية في العصور الوسطي.. أما مصر والسودان فيخصص لها خمس خرائط شارحة السودان في العصر الحديث, ومملكة الفونج, ومصر والسودان في عهد الخديوي اسماعيل, والحركة المهدية, والنزاع الاستعماري علي وادي النيل. أما الدولة العثمانية فيخصها بكثير من التفصيل متمثلا في ثلاث عشرة خريطة شارحة حال العالم الاسلامي الشرقي في منتصف القرن الرابع عشر قبل قيام الدولة الصفوية, اضافة الي الدولة البيزنطية خلال القرنين الثالث والرابع الهجري, وخلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين, وميلاد الدولة العثمانية وتوسعها حتي نهاية حكم سليم الأول,في أقصي اتساعها وفي محاولاتها السيادة علي البحر الأبيض المتوسط, ثم مرحلة الصراع بين العثمانيين والايرانيين خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر., وحتي انكماش الدولة العثمانية وتدهورها حتي معاهدة سيفر في أغسطس1920 وحتي حرب التحرير التركية وتبادل الأقليات. أما الفصل الثامن عشر من الكتاب فيضم أربعة خرائط مخصصة الي الاسلام وتوسع عالمه في غرب ووسط أفريقيا المدارية والاستوائية بداية من القرن الخامس عشر الميلادي وبعده, ثم في دخول الاسلام اندونيسيا والملايو وجزر الفلبين, وأهم دول الاسلام التي قامت في هذه النواحي في القرن التاسع عشر. ويخصص للاقتصاد وطرق المواصلات والحج ثماني خرائط جامعة لاقتصاد العالم الاسلامي في العصور الوسطي شاملة المحاصيل الزراعية والمعدنية والصناعية وطرق التجارة البرية والبحرية في شرق افريقيا وبلاد آسيا والجناح الشرقي ووسط العالم الاسلامي, ودرب الحاج العراقي أيام العباسيين, ودرب الحاج المصري أيام العباسيين عن طريق وادي النيل, وعن طريق شبه جزيرة سيناء. يختتم الدكتور مؤنس كتابه الجامع الموسوعي الفريد بثمان وعشرين خريطة عن عالم الاسلام في العصور الحديثة وهو يرزح تحت نير الاستعمار حتي الحرب العالمية الأولي في غرب ووسط افريقيا, الصحرء الكبري مابين القرنين الثاني عشر والثامن عشر, والمسلمون في الاتحاد السوفيتي, ومراحل استيلاء الروس علي الأراضي الاسلامية, دول الجامعة العربية,المملكة العربية السعودية, وسلطنة عمان ودولة الامارات العربية ومدخل الخليج والكويت وقطر والبحرين والجمهورية العراقية وجمهورية لبنان والمملكة الأردنية الهاشمية وفلسطين قبل وبعد1948, وفلسطين قبل وبعد1967, والجمهورية العربية السورية والجمهورية العربية الليبية والجمهورية التونسية وجمهورية الصومال وجمهورية جيبوتي ودول باب المندب والصين الاسلامية وأفغانستان وباكستان وكشمير وجمهورية بنجلاديش واتحاد ماليزيا والمسلمون في العالم ورحلات ابن بطوطة والجمهورية الاسلامية الايرانية. هذا كتاب تاريخ للتاريخ