أين نغزو المرة القادمة؟ عنوان أحدث فيلم للمخرج الأمريكي المثير للجدل مايكل مور الذي استطاع أن يطور لونا مميزا من الأفلام الوثائقية. فأسلوبه يعتمد علي السخرية وابراز المفارقات عند تناول مشاكل في غاية الجدية. وسواء تناول تجارة السلاح أو الرأسمالية أو نظام الرعاية الصحية أو صناعة السيارات, أو الإرهاب, لا يتواني مور عن انتقاد السياسات الأمريكية ومن وراءها من أشخاص ومؤسسات ذات نفوذ هائل. ويتمتع مور بهذا القدر من حرية التعبير لأنه واحد من صناع السينما المستقلين, أي الذين يعتمدون علي التمويل الذاتي لأفلامهم دون اللجوء لشركات الانتاج العملاقة التي لن تتفق حتما مع الرؤي والقضايا التي يطرحها. وينطوي عنوان الفيلم; أين نغزو المرة القادمة؟, علي سخرية من الإمبريالية الأمريكية والميل لغزو الدول الأخري, وحيث يمثل العالم ملعبا مفتوحا للمغامرات العسكرية الفاشلة غالبا. لكن علي عكس ما يوحي به العنوان, فإن مور لا ينتقد سياسة واشنطن الخارجية بل الداخلية. يحاول من خلال التركيز علي الإيجابيات في الدول الأخري أن يكشف معاناة المواطن الأمريكي العادي في حياته اليومية. هو يري مثلا أن الإيطاليين يستمتعون بنظام عطلات أفضل بكثير من الأمريكيين, إذ تبلغ العطلة السنوية مدفوعة الأجر للمواطن الإيطالي سبعة أسابيع, ثم إنهم يصرفون أجر شهر إضافي في ديسمبر من كل عام لكل العاملين. وفيما يتعلق بالنظم التعليمية الناجحة, يتوجه بنا مور إلي فنلندا حيث يتعلم الطلبة بدرجة أفضل من الطلبة الأمريكيين, رغم أن اليوم الدراسي هناك أقصر, ورغم أنه لا توجد واجبات مدرسية ولا اختبارات موحدة. ويقارن بين الوجبات الصحية اللذيذة التي تقدم للتلاميذ في المدارس الفرنسية وبين الوجبات الضارة التي تقدم للأطفال والمراهقين الأمريكيين الذين تعاني نسبة أكبر منهم من السمنة والأمراض المزمنة. وفي النرويج, يركز علي السجون التي تطبق برامج متقدمة لإعادة تأهيل المسجونين علي خلاف السجون الأمريكية المزدحمة والتي تنتهك فيها حقوق المسجونين كآدميين, ثم يخرجون إلي المجتمع بوصمة تزيد من صعوبة بدء حياة جديدة. الفيلم الذي استغرق انتاجه ست سنوات بسيط ورومانسي إلي حد بعيد, إذ يركز علي الايجابيات متغاضيا عن المشاكل الصعبة التي تعاني منها هذه المجتمعات. فلم يذكر مثلا شيئا عما يعانيه المجتمع الإيطالي من بطالة وتفش للإدمان, ولم يعرض لما يعانيه المجتمع الفرنسي من مشكلات ناجمة عن عدم دمج المهاجرين والتمييز ضدهم. يري بعض النقاد أن هذا التبسيط يقلل من قيمة العمل, لكن مور لا يبدو مهتما بهذه الآراء, لأن هدف الفيلم هو البحث عن الإيجابيات واستخدام السخرية كي يلفت نظر العسكريين والسياسيين في أمريكا إلي أنه بدلا من غزو دول ضعيفة, فإن هناك أشياء أخري أهم بكثير من البترول والثروات الطبيعية يمكن اقتناصها بدون إراقة دماء وقتل آلاف الأبرياء. كل ما يتعين عمله هو رصد السياسات الناجحة في العالم ونقل ما يمكن نقله لتحسين نظام التعليم أو الرعاية الصحية أو الخدمات الاجتماعية في أمريكا. أين نغزو المرة القادمة؟ تم بالفعل ترشيحه لجائزة الأوسكار, لكن ما يهم مايكل مور بدرجة أكبر هو أن يوقظ وعي المشاهدين بأن أمريكا- القوة العظمي في العالم- ليست بالتأكيد أفضل دولة علي وجه الأرض, وأن القوة الحقيقية تكمن في سياسات داخلية تحقق للمواطن طريقة أفضل للحياة.