اذا كنا اقتبسنا العبارة التي حملت عنوان مقالنا السابق من فيلم المخرج الامريكي الشهير مايكل مور (الي اين سنتجه للغزو بعد ذلك)، الا اننا لم نتعرض للفيلم ذاته بالتحليل والتمحيص رغم اهميته الكبري وصلابة منطقه وقوة ما يطرحه من اسانيد. لذا يبدو لنا من الاهمية ان نعرج لهذا الفيلم الذي عرض بمهرجان تورنتو الاخير، ونشرحه للقارئ ونستلهم عصارته لننشر رحيقه بالوجدان. فبعد اختفاء عن الانظار لمدة سبع سنوات كاملة منذ فيلمه الاخير, ظل مور يصنع فيلمه هذا في منتهي الصمت كعادته،ثم فاجأ العالم بعمل عنوانه ابعد ما يكون عن مضمونه. ففريق عمل الفيلم يسمونه الفيلم السعيد لان الفيلم الوحيد منذ زمن طويل الذي لم يقدم فيه مور نقدا للاذعين للواسب (او الابيض الانجلوساكسوني البروتستانتي) المسيطر علي الحكم بالولايات المتحدة. بل انصرف وركز جل اهتمامه بالفيلم الي تقديم نماذج من افضل نظم الحياة الاجتماعية بالعالم ومقارنتها بالوضع بامريكا الان في اسلوب ساخر تميزت به افلام مور. بدأ الفيلم بتقديم نظام الاجازات المدفوعة في ايطاليا سواء في القطاع الحكومي او القطاع الخاص، وقام بسؤال ظابطة شرطة هناك وزوجها عن الحقوق التي يتمتعوا بها في العمل، ليكتشف انهما يحصلون سنويا على ثمانية اسابيع اجازات مدفوعة من عملها في الحكومة الايطالية، وتضرر الزوج انهم لا يستطيعون الاستفادة من كل الاجازات لان زوجته تفضل اداء مهامها في العمل بهمة، وفي كل الاحوال يتم ترحيل الاجازات التي لم تستخدم في العام الذي يليه للاستفادة بها عندما يسمح الوقت. نفس الاجابات تكررت امام مور عندما قابل ملاك مصنعين قطاع خاص بايطاليا احدهما للموضة والاخر للموتوسيكلات، واللذين عبروا عن سعادتهم ورضائهم بمنح العاملين لديهم تلك المدد من الاجازات وقالوا نصا: ( لا تعارض بين راحة العاملين وقدرة الشركة علي تحقيق مكاسب كبيرة).ورد العاملون لديهم بانهم يعطون اقصي ما لديهم لكل تلك المصانع ويشعرون انهم يعملون وسط عائلة وليس ملاكا مستغلين، لدرجة ان الاخيرون يتركونهم لتناول الغذاء بمنازلهم لمدة ساعتين وسط النهار. ذهب مايكل مور لفنلندا باعتبارها واحدة من افضل بلاد العالم في مستوي المعيشة. وكان همه هذه المرة تحليل نظام التعليم هناك المصنف باعتباره الافضل فى العالم، ليكتشف ان هذا النظام معتمد علي عدم وجود واجبات مدرسية فى المنزل، وقائم علي ممارسة الطالب مجموعة من الهوايات والمهارات لتكتمل شخصيته ويتم تنمية الجانب الابداعى بها مع الغاء اي جانب تلقيني يحول الطالب لالة. وقد قابل مور مجموعة من الطلبة عبروا عن سعادتهم بنظام التعليم لديهم وانه يجعلهم مبدعين واحرار،واقر كل منهم باجادته علي الاقل 3 لغات اجنبية. وان اليوم الدراسي عدد ساعاته قليلة. وفي نفس الروح المبدعة المتسامحة الرائعة، عبر المدرسون عن استمتعاهم بالعمل ومحاولاتهم تفجير الطاقات الابداعية للطلبة. ولتفجير البسمات من خلال مفارقة اخري لاذعة، زار مايكل مور تلاميذ احدي المدارس الابتدائية بفرنسا وركز فقرته تلك علي الطعام المجاني الذي يتم تقديمه للاطفال في كانتين المدرسة. وتامل الى اي درجة الاكل صحي وبه من المواد العذائية المفيدة التي تبني اجسام الصغار. ومما زاد الامر طرافة ان الاطفال نفسهم ذوقهم رفيع فهم ابناء المطبخ الفرنسي الراقي، يعرفون الطعام من شكله ولونه، يعرفون نضارته ودرجة طهيه، ولا يلجأوا للوجبات السريعة (الجانك فود) او المشروبات الغذائية قط، بل ان منظرها فقط منفر بالنسبة لهم.وعندما احضر مور لهؤلاء الاطفال صورا للوجبات الامريكية كادوا يتقيأوا. ومن نافلة القول طبعا ذكر ان التعليم والتغذية مجانيان بالنظامين الفرنسي والفنلندي. كانت المقارنة التالية لمور بالنرويج وتحديدا داخل احد السجون هناك. ذلك البلد هو الاخر من اعلي البلاد في مستوي المعيشة والتعامل الانساني مع كل جوانب الحياة. والسجن هناك عبارة عن مزرعة ريفية تكاد تكون بلا تضييق امني البتة، والسجانون كالاخوة بلا غلظة قلوب او فظاعة طباع، بل ميسرون لهؤلاء للذين اخطئوا ان يمارسوا اعمال يدوية او زراعية بعيدا عن المجتمع حتي ينصلح حالهم، وفي غرفة كل منهم افضل الاجهزة الاليكترونية وافضل تجهيزات صحية، بالاضافة الي ان تجهيز الغرفة نفسها اشبه بغرفة فندق. ويقابل مور والد احد الصبية اللذين قتلوا في احد المعسكرات بالنرويج علي يد رجل مضطرب نفسيا قتل عشوائيا مجموعة من الشباب، وفوجئ ان هذا الاب ليس لديه اي حس انتقامي بالانتقام من قاتل ابنه. يذهب بعدها مور الي ايسلندا التي عاني اقتصادها من ازمة كبيرة من عام 2008 حتي 2011، وتم التخلص من احد اهم اسباب الازمة وهم مسئولو اكبر ثلاثة بنوك هناك. وكان هناك مدع عام قوي بسلطة القانون وان بدا بسيطا ومتواضعا، اشار الرجل إلى انه تمت ادانة هؤلاء المسئولين بكل قوة، وتم وضعهم في سجن بعيد في اخر انحاء ايسلندا وان لم نري ان كان سجنا مثاليا كزميله النرويجي ام لا. ثم قابل مور مجموعة من السيدات النابهات اللاتي يدرن اهم المؤسسات في ايسلندا الان ليعترفن كيف استطعن مع ابناء بلدهن انتشالها من عثرتها لتصبح اليوم في حاضر افضل. وكعادته اهتم مايكل مور ببعد التسلية في فيلمه رغم انه في الاساس فيلم تسجيلي تثقيفي، لكن المخرج الامريكي الكبير يعرف سر الصنعة بالسينما، وان تحقيق المتعة هو الاساس في الفنون والاداب. ليؤكد لنا مور في نهاية الفيلم كيف ان النظم الاجتماعية ان صحت تصنع بشرا رائعين متحضرين يكون ظهورهم امامنا انتصارا لعظمة وجود الجنس البشري علي الارض. لمزيد من مقالات احمد عاطف