«الأمة المتعلمة الصحية المثقفة صعب إدارتها أو التحكم فيها»! «يبدو أن النظام السياسى والحكومات يتعمدون أن يغرقوا شعوبهم ومواطنيهم فى الديون والمشكلات الصحية، فكلما ازدادت الديون، ازدادت القيود، ففقد الإنسان القدرة على التعبير». «النظام السياسى يحكم بطريقتين إما تخويف الناس وإما جعلهم غير واثقين.. ولا يوجد أكثر من المرض وعدم القدرة على العلاج لكى تجعل الناس فى أدنى درجات ثقتها وثباتها». هذه الجمل وردت فى سياقات عديدة على مدار ساعة ونصف الساعة فى رائعة المخرج الأمريكى مايكل مور فى فيلمه التسجيلى المدهش والموجع والصادم والمنبه والمحرض والجرىء والحرفى والإنسانى: Sicko أو «سيكو». ذلك الفيلم الذى يعرى حقائق كثيرة فى ما يتعلق بالتأمين الصحى فى أمريكا، وكيف أن هناك 50 مليون مواطن أمريكى لا ينعمون بالحق فى العلاج ولا الرعاية الصحية ولا التأمين الصحى، فى حين أن هناك ربع مليار أمريكى يحصل على هذا الحق، وهو ما اعتبره ما يكل مور وفيلمه كارثة وفضيحة وهى كذلك بالفعل وهو ما تتفق عليه كل المعايير الإنسانية. والحقيقة أننى رغم مشاهدتى فيلم سيكو -ربما أكثر من خمس سنوات- فإننى عندما شاهدته منذ أيام، كانت الرؤية فى استقباله والتعامل مع ما طرحه أمرا مختلفا. سأشارككم بعضا مما طرحه هذا الفيلم العبقرى، ولعلكم تستخلصون النتائج دون مجهود للتفسير فى ما يتعلق بواقعنا الإنسانى أو اللا إنسانى «الصحى المصرى»! يستعرض الفيلم نماذج إنسانية عديدة لمواطنين غير قادرين على الرعاية الصحية لعائلاتهم ولذويهم، بسبب عدم إدراجهم فى التأمين الصحى، وكيف أن هذا يمثل شعورا بالظلم والحنق على الحكومة الأمريكية التى يعتبرونها «مضللة» وغير راعية لمصالح المواطنين. يستعرض الفيلم قسوة أن يظل رجل فى التاسعة والسبعين من عمره يعمل فى تنظيف سوبر ماركت حتى يظل قادرا على الاحتفاظ بحقه فى العلاج المجانى، ويعلق مايكل مور على هذه القصة بجملة: «كيف أن هذا الرجل لا يستمتع بحياته على أحد الشواطئ الآن»! فى جولة بحثية قام بها مور فى فرنسا لمقارنة وضع التأمين الصحى والرعاية المجانية الصحية والتعليمية ورعاية الطفولة التى ينعم بها الشعب الفرنسى وأفراده، وكيف أنهم يحصلون على حقوق عظيمة مقارنة بالمجتمع الأمريكى وفى نهاية ذلك الجزء البحثى من الفيلم يعلق مايكل مور ساخرا «هل تريد حكومتنا -(يقصد الأمريكية بالطبع)- أن نكره الفرنسيين بكل ما لديهم من حقوق، لماذا لا يريدوننا نحب طريقتهم واستمتاعهم بالحياة؟!». عفوا لمقاطعة استرسالك عزيزى القارئ، لكننى عندما سمعت هذه الجملة فى الفيلم انفجرت ضاحكة متحسرة مقبضة القلب وصوتى الداخلى يقول: لماذا تريد حكومتنا (المصرية) أن نكره أنفسنا وعيشتنا وحياتنا؟! يطرح الفيلم مجسدا الجريمة التى يرتكبها بعض المستشفيات الكبرى فى طرد المرضى الذين لم يتمكنوا من سداد فواتير العلاج، وهو أمر لن أستطيع أن أمنع نفسى من مقارنته بما يحدث عندنا فى مصر -وبكل أسف- حيث إنه مشهد شبه يومى فى مستشفياتنا التى ترفض أساسا أن تستقبل مريضا -حتى ولو كان فى حادثة وغارقا فى دمائه- إلا إذا استقبلت فى خزانتها مبلغا بالآلاف تحت الحساب! الفيلم يسخر ويدين بعنف أداء الحكومة تجاه عدم تقديم الرعاية الصحية المجانية لرجال ونساء الإنقاذ فى هجمات 11سبتمبر، وفجر الفيلم مفاجأة أن أفضل رعاية صحية يتم تقديمها هى فى معسكرات جوانتانامو، فاصطحب مايكل مور عشرات من المصابين الذين ظلوا سنوات وسنوات يكافحون من أجل الحصول على رعاية أو تأمين حق علاجهم ولم يفلحوا، فإذا بهم يحصلون على أفضل علاج ورعاية ودواء شبه مجانى، حيث اشترت المريضة علبة دوائها بما يوازى خمسة سنتات فى حين كانت تشتريه فى أمريكا بحوال 120دولارا، مما جعلها تبكى فى الفيلم وتقول: أشعر بمنتهى الإهانة من بلدى الذى سرقنى وباع لى الدواء، بل وعجزت عن شرائه فى حين أننى أحصل عليه تقريبا مجانا فى كوبا، التى ظللنا سنوات طويلة نتعامل معها ويلقنوننا على أنها «البلد العدو»، ذلك العدو هو الذى قدم لهم الدواء والعلاج وأنقذهم من الموت. «كنت ولأول مرة.. أعرف من خلال هذا الفيلم الوثيقة الاجتماعية والسياسية الخطيرة أن كوبا، ذلك البلد الشيوعى الفقير، تلك الجزيرة البعيدة فى البحر الكاريبى يتميز بين دول العالم الثالث بتقديم أفضل رعاية صحية. كنت قد تساءلت فى نفسى: هل المسؤولون فى بلادنا عن الصحة لم يسمعوا أبدا بالنموذج الكوبى فى الصحة؟ وحتى لا نسمع نفس الجملة السخيفة: «أصلها مسألة إمكانات»، هل اجتهدوا ليعرفوا كيف استطاعت كوبا تحقيق هذه المعجزة رغم فقرها؟ حتى تستطيع أن تستكمل وجهة نظرك عزيزى القارئ عليك أن تضع فى اعتبارك أن حكومتك المصرية خصصت 4 مليارات جنيه من ميزانيتها لصحتك أنت وأولادك واللى «خلفوك»، أى خصصت 4.5% فقط من ميزانية الدولة، ومن المفترض أن يتخذ وزير الصحة قرارا -بعد عشرة أشهر من الثورة- بتخصيص 15% من ميزانية الدولة للصحة وفق المعايير الدولية العادية، أى أننا ظللنا سنوات عجافا طوالا لا تحظى فيها صحة المصريين حتى بالمعدل الإنسانى والحد الأدنى من الصحة. «ما زلنا ننتظر التفعيل والتنفيذ»! لعلك أيها المواطن المصرى الكريم تعرف أنه وبعد 25 يناير، رغم كل قيودك وديونك وصحتك الضائعة وحقك المهدر وقدرتك على مواصلة الحياة وسط الذل والقهر والفساد، ومع ذلك لم تفقد حريتك، واستطعت أن تعبر عن رأيك وتصرخ من أجل حقك، فهذا إن دل على شىء يدل على أن المصريين أقوياء مهما خارت قواهم وصحتهم، وبناء على هذه النتيجة: يعتبرها المصريون شهادة حق يراد بها استرداد حقهم، رغم أنه من ضاعت صحته بسبب الظلم والفساد من المحال استردادها. والكارثة أن يعتبر المسؤولون هذا المقال دليلا مؤكِدا على أن المصريين أحرار ولن تمنعهم صحتهم البائسة المثقلة بالأمراض من الثورة والنضال والتعبير عن الحق والبحث عن الحرية.. وتصبح مشاهد المرضى فى المستشفيات وملايين قصص المصريين الباحثين عن علاج، وطوابير مئات الألوف للعلاج على نفقة الدولة، وشهادات وفيات من ماتوا بسبب عدم القدرة على العلاج مشاهد فقر وتجهيزات المستشفيات العامة والمراكز الصحية، وتدنى حالة الأطباء والممرضين والممرضات، ومشهد العجز اليومى الذى تصطدم به وأنت فى موقف لا تتمكن فيه من مساعدة مواطن مريض أو طفل على قائمة انتظار لإجراء جراحة عاجلة، كل هذه المشاهد ومعها المقال -بالطبع- تصبح مع نفايات المستشفيات التى غالبا يتم التخلص منها وفرزها وسط أماكن سكنية، فتعيش نفايات المستشفيات مع الأحياء الذين ينتظرون دورهم!