إن كنا نريد أن ننهض من كبوتنا ونلحق بالركب سريع الخطي مع بقية البشر بعد أن أصابنا الضر والوهن فأصبحنا في مجال التعليم في صحبة المتخلفين, والمتقاعسين, ودخلنا ظلمات التخلف مع الداخلين وصرنا نحتل المركز التاسع والثلاثين بعد المئة من جملة مئة واربعين دولة, لا بد أن نعيد تجربة محمد علي التعليمية, ولو أن محمد علي مؤسس مصر الحديثة عاد من قبره ورأي حالنا لصعبت عليه نفسه علي ما أنفق في إصلاحه في سنوات حكمه في مصر منذ حوالي قرن ونصف من الزمن. كان المفترض أن نبني علي ما تحقق من البنيان وأن نكون في القمة مع أهلها, ولكن هذا لم يحدث, فلم يكن الأمر سهلا علي محمد علي, ولم يك الزمن أيضا سهلا ومتسامحا, بل كان أقسي من زمننا بمراحل, وكان المتربصون من كل صوب وحدب, داخليا وخارجيا, يريدون الأذي والضرر لمصر. لم تتحقق أهدافهم ومؤامراتهم, والذي تحقق هو ما أراده محمد علي. طلب العلم لمصر وأنفق عليه مثلما تنفق عليه الدول المتقدمة في زمننا هذا, ليتحقق لها السؤدد والريادة. كان دائما يتخذ القرار الصائب, وكان يختار من ينفذ ويدير ذلك القرار الصائب وقد تكون تجربة محمد علي الرائدة في مجال التعليم, مخرجا لنا من الظلمات التي دخلناها طواعية من بعده, ومن هنا لابد لنا أن نستفيد من تاريخنا الوضاء. تنبه المتولي علي بلاد مصر- القاهرة أن يرجع إليها شبابها القديم, ويحيي رونقها الرميم, فمن مبدأ توليته وهو يعالج في مداواة دائها الذي لولاه كان عضالا, ويصلح فسادها الذي قد كاد يكون زواله محالا, ويلتجيء إليه أرباب الفنون البارعة, والصنائع النافعة, من الإفرنج, ويغدق عليهم فائض نعمته, حتي أن العامة بمصر, وبغيرها من جهلهم يلومونه في أنفسهم غاية اللوم,بسبب قبوله الإفرنج, وترحيبه بهم, وإنعامه عليهم, جهلا منهم بأنه إنما يفعل ذلك لإنسانيتهم وعلوهم.....ولا يتأتي لإنسان أن ينكر أن الفنون والصنائع الغربية بمصر قد برعت الآن, بل وقد وجدت بعد أن لم تكن,يرجي بلوغها درجة كمال وفوقان, فما أنفقه الوالي علي ذلك كان في محله إتفاقا, فانظر الي الورش والمعامل والمدارس ونحوها, وإنظر الي ترتيب أمر العساكر الجهادية من آليات ومدارس حربية, فإنه من أحسن ما صنعه, وأحق مايؤرخ من فعل الخيرات, ولا يمكن إدراك ضرورية هذا النظام إلا لمن رأي بلاد الفرنجة, أوشاهد الوقائع. هذا الكلام المطول من كتاب: تخليص الإبريز في تلخيص باريز لمؤلفه رفاعة رافع الطهطاوي والذي نشرته مطبعة بولاق عام1848. والذي أعادت طباعته وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام1958. كان رفاعة إماما للبعثة التعليمية الثالثة التي أرسلها محمد علي الي فرنسا عام1826 وكانت تضم40 مبعوثا منهم سبعة عشر من المصريين والباقون من ا لأتراك والجورجين والشراكسة والأرمن واليونان. كان الشيخ رفاعة ضمن هذه البعثة ثم اختير لدراسة الترجمة, وهو مؤسس مدرسة الألسن وناظرها وصاحب المؤلفات والتراجم الكثيرة وأحد أركان النهضة العلمية العربية بل إمامها في مصر. كلمات الشيخ المستنير توضح لنا بجلاء أن العلم هو الباعث لنهضة أي أمة وهو المصلح لأي فساد يعتورها, وأن محمد علي, كان مدركا منذ اليوم الأول لولايته علي مصر بضرورة تلقي العلم من مصادره الغربية آنذاك, فأرسل البعثات الي بلاد الفرنجة من أجل أن تنهض مصر من كبوتها, سابقا بذلك اليابان والتي أرسلت أول بعثة للغرب عام1882, وأنه لم يتوقف علي مجرد إرسال البعثات, بل أحضر الي مصر أساطين العلماء الأوربين وكان يغدق عليهم الأجور ويكرمهم, وعهد إليهم بتنظيم العملية التعليمية في مصر, فأتت أكلها أضعافا. كان محمد علي يدرك أنه بلا تعليم حديث, لن يتحقق أي تقدم لمصر التي أصابها الوهن عندما إحتلها العثمانيون وأحالوها الي مجرد ولاية في إمبراطوريتهم ونزحوا خيراتها وأخذوا الأكفاء من بنيها الي الأستانة, فأصابوا مصر بما يشبه الفراغ والتفريغ والشلل بعد أن كانت هي الإمبراطورية العالمية في عهد الدولة الأيوبية وعهد دولة المماليك البحرية, وكانت خطة محمد علي الإستراتيجية إعادة الريادة لمصر وعاصمتها القاهرة, ولم يك محمد علي يحضر مجرد علماء غربيين, ولكنه كان يحضر العظماء منهم في كل المجالات. يستمر الشيخ رفاعة في ذكره أسباب إرسال تلك البعثة, فيقول: البلاد الإفرنجية قد بلغت أقصي مراتب البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية, وما وراء الطبيعة, أصولها وفروعها, ولبعضهم نوع من المشاركة في بعض العلوم العربية وتوصلوا الي فهم دقائقها وأسرارها. بالجملة والتفصيل. ولأن أمال الوالي دائما متعلقة بالعمار, ومن الحكم المعروفة فإن العمارة كالحياه, والخراب كالموت, وبناء كل إنسان علي قدر همته. فقد سارع الوالي الي تحسين بلاده فأحضر فيها ما أمكنه بعثه من مصر الي تلك البلاد, فإن علماءها أعظم من غيرهم في العلوم الحكمية.وفي الحديث,(الحكمة ضالة المؤمن) يطلبها ولو من أهل الشرك, فقد قال بطليموس الثاني( خذوا الدر من البحر, والمسك من الفأرة, والذهب من الحجر, والحكمة ممن قالها). وفي الحديث( إطلب العلم ولو في الصين), ومن المعلوم أن أهل الصين وثنيون, وإن كان المقصود من الحديث السفر الي طلب العلم, وبالجملة حيثما أمن الإنسان علي دينه, فلا ضرر في السفر, خصوصا لمصلحة مثل هذه المصلحة. هنا أيضا ندرك مدي إستنارة هذا الشيخ في هذا الزمن, وكيف أن طلب العلم هو الضرورة التي لا يمنع تلقيها من أي إنسان وفي أي مكان. إنه يشبه العمار بالحياه والخراب بالموت, ويوضح لنا أم محمد علي هو الراغب في العمار وأن آماله كلها تقع في هذا الإتجاه, وأن مسئوليته تجاه رعيته تجعله يجلب أفضل العلماء الي مصر, وإرسال بنيها مبعوثين لتلقي العلوم في منابعها ومراكزها ومصادرها, وأن الإحتكاك البشري لا يمنعه إختلاف الدين والعقيدة. ويستمر شيخنا الجليل في إستنارتنا:ولعل هذا كله مطمح نظر الوالي في هذه الإرسالية وغيرها من الإرساليات المتسلسلة, فثمرة هذا السفر تحصل- إن شاء الله تعالي- بنشر هذه العلوم والفنون, وبكثرة تداولها, وترجمة كتبها وطبعها في مطابع ولي النعم, فينبغي لأهل العلم حث جميع الناس علي الإشتغال بالعلوم والفنون, والصنائع النافعة.... ولأن هذا مقال من تجرد عن الدنيا, وإنهمك علي الأخري, أو من إشتري العلوم بأغلي الأثمان, فبخس صفقتها حادث الزمن. كانت هذه البعثة هي الأهم في تاريخ البعثات التعليمية المصرية الي الخارج, وكانت دلالة علي مايمر في فكر محمد علي, وإستراتيجيته للنهوض, وأن هذا لن يتحقق إلا بالعلم ونهله من منابعه. كان صاحب رؤيا ثاقبة, وأنه كما قال مرارا وتكراأنه لا يخشي حكم التاريخ عليه, وقد صدق في مقولته كما يخبرنا التاريخ عنه بعد قرن ونصف من الزمن. من المفيد هنا أن أشير الي كتاب البعثات العلمية في عهد محمد علي ثم في عهدي عباس الأول وسعيد لمؤلفه عمر طوسون المنشور بمطبعة صلاح الدين بالإسكندرية عام1934, والذي يحوي التفاصيل الكاملة لتلك البعثات وأسماء المبعوثين ومساهماتهم عقب عودتهم من تلك البعثات في بناء مصر, والمناصب التي تبؤوها غقب عودتهم. يقول عمر طوسون:... شعر محمد علي رغم أميته بأن الملك لا يشيد إلا علي أمتن أساس من العلم, وأن العلم الذي تدعم به الممالك ليس هو الذي يسمونه علما في الشرق, وإنما هو الذي قامت به المدنية الغربية, وشيدت عليه صرح عليائها وقوتها فأقرت لها الأمم بالغلبة, ووقفت أمامها صاغرة ذليلة. ذلك بلا شك هو ما جال في نفس محمد علي, وذلك ما حفزته همته الي العمل لبلوغه, فعمل وأفلح ولم يكن له من المؤازرين ما كان لنابليون, ولا حوله من العلماء ماكان حول سائر الملوك الذين رفعوا شأن ممالكهم في أوروبا, وهذا شأن له يدعو الي العجب العجاب هذه مقولة صادقة كل الصدق, فقد كانت فرنسا في وقت نابليون هي الرائدة في العلوم والهندسة كما يعرف الجميع دور علمائها الرائد حتي وقتنا هذا في مساهمتهم التاريخية الخالدة ومنهم لا بلاس وفورير ولافوزيه ولاجرانج وبواسون وكارنوت وغيرهم الكثير. بالنقيض كانت مصر عندما تولاها محمد علي مجرد ولاية عثمانية منهكة ومسلوبة كما البقرة الحلوب من صاحب لا يهتم. كان إهتمام محمد علي بالتعليم هو معجزته الكبري, وكان يشرف عليه بنفسه, ويوليه كل الأهمية. يقول رفاعة في كتابه أن محمد علي كان يحث طلاب البعثة ويحرضهم علي الدراسة: جرت عادته من مدة خروجنا من مصر بأنه كان يبعث لنا فرمانا كل عدة شهور, يحثنا فيه علي تحصيل الفنون والصنائع, فمن هذه الفرامانات ما كان من باب ما يسمي عند العثمانية إحياء القلوب, ومنها ما كان من باب التوبيخ علي ما كان يصله منا ويبلغه عنا من بعض الناس حقا أو غير ذلك, ولنذكر هنا فرمانا عن إحياء القلوب يحثنا فيه علي التعليم, وهذه صورة ترجمته: قدوة الأماثل الكرام( الأفندية) المقيمين في باريس لتحصيل العلوم والفنون زيد قدرهم. ينهي إليكم أنه قد وصلنا أخباركم الشهرية والجداول المكتوب فيها مدة تحصيلكم, وكانت هذه الجداول المشتملة علي شغلكم ثلاثة شهور مبهمة لم يفهم منها ما حصلتموه في هذه المدة, وما فهمنا منه شيئا وأنتم في مدينة مثل باريس التي هي منبع العلوم والفنون, فقياسا علي قلة شغلكم في هذه المدة عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم, وهذا الأمر غمناغما كثيرا, فيا أفندية ما هو مأمولنا منكم, فما كان ينبغي لهذا الوقت أن كل واحد منكم يرسل لنا شيئا من أثمار شغله, وآثار مهارته, فإذا لم تغيروا هذه البطالة بشدة الشغل والإجتهاد والغيرة, وجئتم الي مصر بعد قراءة بعض كتب فظننتم أنكم تعلمتم العلوم والفنون, فإن ظنكم باطل فعندنا ولله الحمد والمنة رفقاؤكم المتعلمون يشتغلون ويحصلون الشهرة, فكيف تقابلونهم إذا جئتم بهذه الكيفية وتظهرون عليهم كمال العلوم والفنون, فينبغي للإنسان أن يتبصر في عاقبة أمره, وعلي العاقل ألا يفوت الفرصة, وأن يجني ثمرة تعبه, فبناء علي ذلك أنكم غفلتم عن إغتنام هذه الفرصة, وتركتم أنفسكم للسفاهة, ولم تتفكروا في المشقة والعذاب الذي يحصل لكم من ذلك, ولم تجتهدوا في كسب نظرنا وتوجهنا إليكم, لتتميزوا بين أمثالكم, فإن أردتم أن تكتسبوا رضاءنا فكل واحد منكم لا يفوت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون, وبعد ذلك كل واحد منكم يذكر إبتداءه وإنتهاءه كل شهر, ويبين زيادة علي ذلك درجته في الهندسة والحساب والرسم, وما بقي عليه في خلاص هذه العلوم, ويكتب في كل شهر ماتعلمه في هذا الشهر زيادة علي الشهر السابق, وإن قصرتم في الإجتهاد والغيرة فإكتبوا لنا سببه, وهو إما من عدم إعتنائكم, أو من تشويشكم, وأي تشويش لكم هل هو طبيعي أوعارض, وحاصل الكلام أنكم تكتبون حالتكم كما هي عليه حتي نفهم ما عندكم, وهذا مطلوب منكم, فإقرؤا هذا الأمر مجتمعين, وإفهموا هذه الإرادة... فمتي وصلكم أمرنا هذا فإعملوا بموجبه, وتجنبوا وتحاشوا عن خلافه. يقول رفاعة رافع بعد سرد هذا الفرمان العنيف من الوالي نفسه والذي كان متابعا بإهتمام بالغ تلك البعثة, دليلا علي ما كان ينتظره منها, ودليلا علي دقته البالغة في تتبع حتي التفاصيل الصغيرة. كان وكأنه مكتب بعثات مشرف علي طلاب البعثات بالكامل. يقول رفاعة: ومن وقت هذا المكتوب صرنا نكتب كل شهر جميع ما قرأناه وما تعلمناه في ذلك الشهر, ويكتب تحته المعلمون أسماءهم ويبعثونه الي الوالي, فلما تساهل بعض منا في ذلك, كتب مسيو جومار إلينا جميعا مكاتيب, ليأمر من كان مواظبا علي كتابة هذه الأوراق في كل شهر أن يدوم علي مواظبته, ويوبخ من تساهل. لم تك البعثة الثالثة تلك هي جملة بعثات محمد علي, فقد ذكر الأمير عمر طوسون في كتابه: بلغ عدد المرسلين الي أوروبا في الفترة من مارس1826 الي1848 مائتين وتسعين تلميذا. وقد بلغت تكاليف تلك البعثات في الفترة من1826-1836 مبلغا قدره8538 جنيها., وهومبلغ ربما يعادل100 مليون الآن. يختم عمر طوسون كتابه عن أولئك المبعوثين بقوله: هم نخبة رجال العصر الماضي وأساطين نهضة مصر, وقد تغربوا عن وطنهم وأسرهم لإدراك أشرف غاية في وقت كان السفر فيه أصعب إحتمالا وأكثر أهوالا من السفر الي الي أقصي المعمورة اليوم. ثم عادوا الي وطنهم وقدموا له أجل الخدم بإرشاد قائدهم العظيم محمد علي وتحت رعايته حتي أمكنه أن يشيد علي رؤوسهم بأعمالهم وجهودهم وكفاءتهم مصر الحديثة. فمهما نشكرهم فإننا لا نفيهم بعض ما لهم علينا. وحق علي علمائنا أن ينقبوا عن أسمائهم في الصحائف المنسية حتي يظهروا أشخاصهم للعيان. وهذا أقل ما يفرضه الواجب علينا في جنب فضلهم وعرفان جميلهم.