رغم كل هذا التاريخ الطويل والصيت الذائع, وجد الإعلام البريطاني نفسه أمام أسئلة بديهية تواجه المؤسسات الإعلامية في الدول التي لا يعرف لها سجل في الإعلام المهني المستقل المنضبط. ولولا فضيحة صحف امبراطور الإعلام روبرت موردوخ, التي أفسدت حتي مسؤولين عامين تعاونوا معها بالأجر لكشف أسرار الناس الخاصة وقطع الشعرة الرفيعة بين حرية الإعلام وخرق القانون, لما عاد الصراع مرة أخري بين الحرية والمسؤولية. خلال9 سنوات منذ أن أطلت الفضيحة برأسها عام2005, وحتي2014, شكلت لجنة برئاسة القاضي ليفسون, للتحقيق في ممارسات صحف موردوخ وغيرها. وشغلت بريطانيا بمعركة شاركت فيها الحكومة والأحزاب السياسية وإدارات الصحف, ولحقت بها مؤسسات الإعلام المسموع والمرئي حول سبل ضبط أخلاق المهنة, وأدوات مراقبتها وتنظيمها وإدارتها ومحاسبتها. وكان الهدف, ولايزال, هو الاتفاق علي إجابات عن أسئلة: كيف يمكن صيانة حقوق الناس الشخصية دون المساس بحق الجمهور في أن يعلم؟,ومنع انفلات وغطرسة الإعلام دون الاعتداء علي حرية التعبير؟, ووقف هدر الأموال العامة في المؤسسات الإعلامية المملوكة للشعب( وليس الحكومة) دون حرمانها من حق الرقابة علي الحكومة حتي لو كانت منتخبة؟. عندما انتهت لجنة ليفسون إلي أن الصحافة البريطانية بحاجة ماسة لأن تضبط وتنظم نفسها وفق معايير محاسبة صارمة في إطار ميثاق ملكي ملزم, وجدت الصحافة نفسها في اختبار قاس أمام الناس. فإما أن تراقب نفسها بنفسها, أو تقبل نظام مراقبة يفرض عليها. وتكاتفت المؤسسات الصحفية وشكلت هي تنظيما جديدا هو المنظمة المستقلة لمعايير الصحافة, التي عرفت باسم آي بي إس أو,IPSO لتحل محل لجنة شكاوي الصحافة, التي ثبت فشلها الذريع في مهمة مراقبة ومحاسبة الصحف. تتشكلإبسو من مجلس يرأسه قاض سابق من محكمة الاستئناف, و12 عضوا, من بينهم7 ليس لهم علاقة بصناعة الصحف والنشر, و5 يمثلون الصحف التي قبلت التوقيع علي نظام عمل المنظمة. الهدف العام للمنظمة هو, حسب الاتفاق, تعزيز ودعم أعلي المعايير المهنية للصحافة في المملكةالمتحدة, ومساندة أي فرد من الجمهور في السعي للإنصاف عندما يعتقد بأن مدونة سلوك المحررين( ميثاق العمل الصحفي) قد انتهكت. وتعتبر إبسو أن هذه المدونة محور التنظيم الذاتي, الذي يغلق الباب أمام تدخل الدولة تحت ضغط الرأي العام الغاضب من ممارسات الصحافة الفاسدة والمفسدة. تقع المدونة في خمس صفحات فقط, وتشمل عشرة فصول قصيرة بإجمالي51 مادة. لم تحرم المدونة الصحافة المهنية من أي حقوق لكنها تحملها هي مسئولية إثبات أن ممارستها الصحفيةالمثيرة للخلاف أحيانا, تخدم الصالح العام وحق الناس في المعرفة. كما تؤكد في مادة منفردة أن في حرية التعبير في حد ذاتها مصلحة عامة. ولا تحرم القواعد الجديدة أي صحيفة من أن تكون منحازة لأي طرف أو حزب أو فكرة طالما أنها لا تخلط أبدا بين الرأي والتكهن والتخمين والحقائق. توفر المنظمة خدمة الشكوي للجمهور علي مدار24 ساعة مجانا. وتتضمن آليات ملزمة للصحيفة بتطبيق قرار لجنة الشكاوي ضدها من حيث نشر أي تصحيح وفي المكان وبالمساحة التي تحددها اللجنة مع إشارة في العنوان الرئيسي إلي إدانة اللجنة للصحيفة. وباستطاعة المنظمة فرض عقوبات وغرامات ملزمة للصحيفة أيضا, دون أن تحرم الصحفي من حقوق كالطعن وصيانة التزامه الأخلاق بالاحتفاظ بسرية مصدر معلوماته. كل هذه الإجراءات لا تحرم أي شخص حقه من اللجوء للمحكمة لمقاضاة أي صحيفة يعتقد أنه تضرر من سلوكها. في البداية لقيت المنظمة معارضة شديدة من بعض الصحف لأنها تتبني نظاما صارما له أنياب حادة لمراقبة تطبيق ميثاق عمل صحفي جديد. غير أن الخوف من اضطرار الدولة للتدخل لتطبيق توصيات لجنة ليفسون القضائية بفرض آلية بديلة لتنظيم الصحافة, دفعت أصوات المعارضة للتراجع. فلم يمر علي إنشاء المنظمة في8 سبتمبر2014 سوي عام وشهر تقريبا, حتي انضم إليها أكثر من1500 صحيفة ومجلة ومطبوعة ورقية وأكثر من1100 موقع إعلامي علي الانترنت. وكلها إصدارات خاصة نظرا لأن الحكومة البريطانية لاتملك صحفا. وبهذا توقف النقاش بشأن حقوق الصحف ومسؤولياتها لحين إجراء تقييم شامل لمهمة الإبسو. وبدأت معركة جديدة حول مصير وسيلة الإعلام الوحيدة العامة المملوكة للشعب, هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي, أكبر مؤسسة للإعلام المرئي والمسموع والرقمي في المملكة المتحدة. لن تحسم المعركة ربما حتي الانتهاء من مراجعة ميثاق عملها بنهاية.2016 غير أن النتيجة الأولي المتفق عليها هي أنه من المستحيل أن تبقي بي بي سي علي حالها. والخلاصة المؤكدة لكل ما يصدر عن إدارة الهيئة ومؤيديها الكثيرين في بريطانيا, وحتي خارجها, هي أن المؤسسة العريقة يجب أن تتغير بشكل شامل. والنتيجة الثانية هي أنه أيا تكن التحفظات علي تضخم حجمها, وميزانيتها, وطريقة إدارتها وإنفاقها للأموال العامة, ومدي فعالية وسائل محاسبتها مهنيا, فإنه من المستحيل الاستغناء عن صيغة بي بي سي كمؤسسة إعلامية عامة لا تخضع للحكومة أو ابتزاز رأس المال والمعلنين, هدفها الوحيد هو خدمة الجمهور, وتكريس صورتها كأحد أيقونات بريطانيا في العالم.