في بريطانيا يجري الآن نقاش مثير يحتاج المصريون, حاجة ماسة, لمتابعته بعقول مفتوحة. اجتهد السياسيون من الأحزاب الثلاثة الحاكمة والمعارضة, في حوار وطني أخذ الكثير من الجهد والاشتباك الشرس بالأفكار, لمساعدة الصحافة علي المرور عبر ربيع طال انتظاره, بما يضمن حريتها, ويعيد الثقة المفقودة فيها, ويضمن للناس حقوقهم في مواجهة تطرفها في ممارسة الحرية. بعد ثلاثة قرون من رفع الرقابة عن الصحافة, وجد البريطانيون أنفسهم أمام وقفة ضرورية لتطهير الصحافة من خطايا اقترفتها بعض الصحف والصحفيين خلال السنوات الأخيرة. وكما يحدث في مصر, اتفق الجميع علي أنه لابد من إعادة ضبط وتنظيم الصحافة. ويتفق الجميع ايضا علي أن لجنة شكاوي الصحافة الحالية, التي أنشأتها وتمولها الصحف وتضم10 شخصيات عامة و7 من رؤساء تحرير الصحف الحاليين, لم تعد تصلح لرسم وفرض الحدود الفاصلة بين الحريات والجرائم الصحفية. فأقصي ما يمكن أن تفعله اللجنة هو تجريس الصحف التي ترتكب أخطاء تخالف ميثاق العمل الصحفي وتطلب من الصحف الخاطئة نشر تصحيح واعتذار لمن يعنيه الأمر. أما الخلاف الأكبر المثير, والمتناقض مع ما يحدث في مصر وغالبية دول العالم, هو أن حزب المحافظين البريطاني, الشريك الأكبر في السلطة, يصر علي الترفق بالصحافة وعدم تشديد معاييرضبطها وتأديبها, أما شريك الحكم الأصغر, حزب الديمقراطيين الليبراليين, وحزب المعارضة الرئيسي, العمال يصران علي أن يكون لأي جهاز تنظيمي جديد أنياب ظاهرة قاطعة باستمرار حتي تفكر الصحافة مليا قبل أن تتجاوز الخط الفاصل بين الحرية وانتهاك الحقوق. يدور النقاش وفي أذهان أطرافه حقائق مزعجة تقول: بعض الصحف تجسس علي الناس, واعتدي علي خصوصيتهم, واشتري بعض رجال الشرطة والمسئولين العامين بالرشوة المالية, وافسد بعض السياسيين, وخالف القانون واخترق أجهزة كمبيوتر شخصية بهدف الحصول علي خبطات صحفية, وبعض كبار مسئوليها ومحرريها يمثل الآن أمام القضاء بتهم عرقلة العدالة. الفاعل الرئيسي الاشهر لكل هذه الجرائم, علي مدي سنوات, هم صحفيو امبراطورية ميردوخ الإعلامية الشهيرة. استجاب رئيس الوزراء ديفيد كاميرون لغضب الناس. وشكل لجنة برئاسة القاضي ليفسن للبحث في ممارسات الصحفيين وأخلاقهم, وميثاق عملهم وعلاقتهم بالسياسيين. وانتهي بعد انفاق8 ثمانية شهور و6 ملايين جنيه استرليني إلي أن سلوك الصحافة مفزع ودمر حياة الناس الإبرياء. وكانت خلاصة وصاياه هي أن تنظم الصحافة نفسها بنفسها وبقانون ملزم يضمن حريتها وحقوق الناس, ويحول دون تكرار ممارسات الماضي. قال كاميرون ومؤيدوه بوضوح إنه لن يقبل تنظيم الصحافة بقانون لأن هذا يقيد حريتها المستقرة منذ قرون. فجري تذكيره بتعهده, في عام2008 عندما كان زعيما للمعارضة, بأنه رغم أن لجنة شكاوي الصحافة استقرت ونظامها يعمل بشكل أفضل مما بدأ, فإن هذا لايعني القول بأن ليست هناك حاجة دائمة للتأكد من أن الصحافة تتصرف بمسئولية. الآن وفي عام2013, عرض حلا وسطا هو إنشاء هيئة جديدة مستقلة لتنظيم الصحافة بناء علي ميثاق ملكي وليس بناء علي قانون.وهذا الاقتراح, كما يراه حل يحمي حرية الصحافة بدلا من حل يهددها وتصدي لهذا الحل الوسط نيك كليج, حليف كاميرون في السلطة, وإيد ميلليباند, زعيم حزب العمال المعارض. ويتفق الديمقراطيون الليبراليون والعمال علي أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لاستعادة ثقة الناس في الصحافة, وضمان عدم تكرار انتهاكات الصحافة الأخيرة. يضيف هؤلاء أن الميثاق الملكي, الذي سيكون مجرد أمر تنفيذي وليس تشريعا برلمانيا له قوة القانون, يعطي السياسيين وحلفاءهم من أباطرة الصحف القدرة علي التلاعب بنظام الرقابة. دور ملاك الصحف والصحفيين في هيئة التنظيم والمراقبة المقترحة كان محل خلاف. يري نيك كليج وإيد ميلليباند أنه لا يجب أن يكون لهؤلاء رأي في اختيار أعضاء مجلس إدارة الهيئة, حتي لايتأثر حيادها ونزاهتها. ويميل كاميرون, الذي دعمته صحافة ميردوخ بفعالية في انتخابات عام2010, إلي الاعتقاد بأن الوسط الصحفي لن يقبل الخضوع للتنظيم والمراقبة من جانب هيئة ليس للصحفيين والناشرين ممثلون فيها. وتأزم مناخ النقاش بقرار مفاجئ من كاميرون بوقف الحوار بعد ما رأي أن الخلافات أعمق بكثير من قدرة المتحاورين علي تسويتها. واجتهد كل طرف, إعلاميا, في عرض وجهة نظره علي الرأي العام. وتاه الناس في تحديد مواقفهم من أفكار السياسيين. وقرر كاميرون اللجوء إلي البرلمان لحسم الخلاف دون أن توضع أمامه مقترحات محددة للبت فيها, ما وضع النواب أمام مسئولية ثقيلة. فعاد السياسيون إلي مائدة الحوار. وانتهت محاولة اللحظة الأخيرة إلي صيغة وسط ثانية, يعتقد المتحاورون بأنها تستحق أن تعطي فرصة, ربما تبرئ الصحافة من ذنوبها السابقة والمستقبلية. وملامح هذه الصيغة الرئيسية هي: إنشاء هيئة جديدة مستقلة لها أنياب ناجزة لتنظيم الصحافة متحررة من سيطرة الصحفيين والحكومة وملاك الصحف, وتضطلع بدور فاعل في رفع مستوي المعايير المعنية. صدور ميثاق ملكي تنفيذي بإنشاء الهيئة, دون أن يصوت عليه البرلمان, ولا يمكن تغييره إلا بموافقة ثلثي البرلمان. والتصور أن هذا الشرط يمنع الحكومة من التلاعب بالميثاق أو تغييره في المستقبل. ولتأكيد ذلك, سيجري تعديل القوانين الحالية لتضمن ذلك. تشكيل لجنة جديدة لوضع مدونة سلوك تضع المعايير الصحفية الواجب الالتزام بها. وسيكون لهيئة التنظيم الجديدة سلطة تحديد مدي التزام أي صحيفة بهذه المدونة. إنشاء آلية تحكيم فاعلة تمكن لأي شخص متضرر من ممارسات الصحافة اللجوء إليها لمحاسبة الصحف دون إحالة الأمر إلي المحاكم. ولا يتحمل الشاكي أي تكاليف مالية للنظر في شكواه. لا تتجاوز العقوبات المالية علي الصحف مليون جنيه استرليني مع إلزامها بنشر اعتذارات واضحة ومعبرة عن حجم الخطأ في حالة ارتكابه, دون أي صلاحية لوقف النشر. الصحف التي ترفض التعامل مع هذه الهيئة سوف تخضع لسلطة هيئة مراقبة وسائل الاعلام المستقلة الحالية( التي تراقب الإعلام المسموع والمرئي بخلاف لجنة شكاوي الصحافة الحالية التي تتعامل مع الصحف). الهيئة الجديدة تخصص خطا ساخنا لشكاوي الصحفيين الذين قد يتعرضون لضغوط من جانب أصحاب صحفهم لارتكاب ممارسات صحفية مخالفة لمدون السلوك الصحفي. .. وعاد الخلاف إلي نقطة البدء, حيث لا اتفاق إلا علي بند واحد هو: لا يمكن استمرار الصيغة العتيقة الحالية لمراقبة سلوك الصحافة بعد الذنوب التي اقترفتها. ويستمر البحث عن البديل.