الصدفة وحدها هي التي يمكن أن تجعل بريطانيا نموذجا قد يكون من مصلحة مصر الثورة أن تفكر في كيفية الاستفادة منه. في بريطانيا كما في مصر المشغولة بالتحقيقات في الفساد ينشغل البريطانيون بتحقيقات مماثلة المتهم الرئيسي فيها هو الإعلام. الشرطة تحقق جنائيا في فضيحة تنصت صحفيي امبراطورية مردوخ الإعلامية علي الناس. وتجري تحقيقا منفصلا في علاقة رجال الشرطة بوسائل الإعلام وتتابع لجنة الشئون الداخلية في مجلس العموم( البرلمان) تحقيقا لتحديد كفاءة وجدية الشرطة في تناولها القانوني لملف التنصت علي الهواتف. وهيئة تنظيم عمل المحامين هي الآخري تحقق في الدور المحتمل للمحامين في الفضيحة. والجمعية القانونية تسعي لمعرفة حقيقة تعرض هواتف المحامين للتنصت. والحكومة تجري تحقيقا يقوده سير جس اوودنل وزير شئون مجلس الوزراء لمراجعة طبيعة العلاقة بين الوزراء ووسائل الإعلام. ولجنة الإعلام والثقافة والرياضة في البرلمان تستجوب مردوخ وابنه ومسئولي امبراطورية مردوخ الإعلامية. ورغم أهمية الشق الجنائي في الفضيحة التي قال رئيس الوزراء ديفيد كامرون إنها هزت ثقة البريطانيين في سياسيين وإعلامييهم فإن ضغوط الرأي العام ودوي الفضيحة كفيلان بأن يجبرا الشرطة علي ألا تتجاهل معلومة شاردة أو واردة لكشف الحقيقة وتقديم المخالفين للقانون للمحاكمة. والأهم الآن هو التقرير المرتقب بعد عام من الآن الذي سيتضمن نتائج تحقيق قضائي بقيادة لورد ليفسون لأنه سوف ينظر في مختلف جوانب الفضيحة القانونية والسياسية والإعلامية والاجتماعية. فالجزء الأول من هذا التحقيق القضائي الذي أمر به رئيس الوزراء يركز علي' ثقافة وممارسات وأخلاقيات وسائل الإعلام في بريطانيا'. وينظر في' العلاقات بين الصحف ومحطات التليفزيون والاذاعة وشبكات وسائل الإعلام الاجتماعية والسياسية والشرطة' وكذلك تنظيم عمل وسائل الإعلام. وتضم لجنة التحقيق صحفيين وضباط شرطة وأحد دعاة الحقوق المدنية. في الأسبوع الأول من عمل لجنة التحقيق سارع كل واحد من زعماء الأحزاب الرئيسية الثلاثة( المحافظين والديمقراطيين الأحرار الذين يشكلان الحكومة والعمال المعارض) بتقديم تقرير للرأي العام بشأن أسماء ومواعيد وأماكن لقاءاتهم بالصحفيين ورؤساء تحرير الصحف وملاكها ومديري القنوات التليفزيونية. وهذا يعكس بوضوح مدي تسمم المناخ السياسي والإعلامي في بريطانيا بالتفاصيل التي تتكشف يوميا عن فضيحة امبراطورية مردوخ وتأثير وسائل الإعلام علي المناخ السياسي العام في بريطانيا. وهذا الوضع خلق حالة تشبه الإجماع علي ضرورة تعلم الدرس القاسي من الفضيحة وإعادة النظر في ملكية وسائل الإعلام في بريطانيا. فليس في البلاد قوانين خاصة تنظم ملكية الصحف ووسائل الإعلام. وكشفت فضيحة مردوخ عن أن وسائل إعلام امبراطورية نيوز كوربوريشن العالمية التي يقودها الملياردير الأسترالي الأمريكي العجوز( عن طريق مؤسسة نيوز انترناشيونال في بريطانيا وأوروبا) كانت ممتدة الأذرع. وقليل من الإعلاميين والسياسيين هم الذين لم تربطهم علاقة ما بهذه الامبراطورية. ومن ثم فإن الشكوك كثيرة وقوية في احتمال أن يكون لأدوات هذه الامبراطورية وهي صحيفة نيوز أوف ذي وورلد( التي أغلقت أخيرا بعد168 عاما من الصدور بسبب دورها القذر في فضيحة التنصت علي الهواتف) والصن والتايمز وشبكة سكاي نيوز الإخبارية ضلع في إفساد الحياة العامة وخاصة السياسية في بريطانيا. وبسبب من هذه الشكوك التي تنمو يوميا يتشكل الآن اتفاق عام علي ضرورة النظر في منع ملاك الصحف من امتلاك محطات تليفزيونية الأمر الذي يعني تفكيك أنماط ملكية وسائل الإعلام الحالية رغم أنها لا تخالف القانون. فينيس كيبل وزير المشروعات في الحكومة والمسئول عن ضمان تطبيق معايير المنافسة العادلة بين المؤسسات علي اختلاف مجالات عملها بما فيها الإعلامية يقر بأنه كانت لامبراطورية مردوخ' إسهامات إيجابية في مجال الإعلام البريطاني'. غير أنه يطالب الآن بضرورة أن تكون هناك حدود في أسهم السوق وجرأة في مواجهة غيلان الميديا التي تملك صحفا ومحطات تليفزيونية في نفس الوقت'. فكيبل ومعه كثيرون من الكتاب والصحفيين والسياسيين يرون ملكية الصحف ومحطات التليفزيون( كما هو حال امبراطورية مردوخ) أو أي تحالفات بينهما يضر بالتعددية والتنوع والاختيار ويؤثر سلبا علي الحياة السياسية. وبنفس القدر تتعرض هيئة الاتصال والإعلام لضغوط قوية لتعزز دورها مستغلة هذه الفرصة التاريخية. فهذه الهيئة المستقلة التي تحاسب أمام البرلمان مسئولة عن مراقبة انضباط وتنظيم ممارسات محطات التليفزيون والإذاعة( فضلا عن الاتصالات السلكية واللاسلكية) وضمان أن يحصل المواطن البريطاني علي أفضل خدمة تليفزيونية وإذاعية علي اساس من المنافسة العادلة السليمة بين المحطات المختلفة. والجهاز الثالث الذي لجأ إليه الرأي العام البريطاني هو لجنة شكاوي الصحافة التي تراقب التزام الصحف والمجلات والصحفيين ورؤساء التحريربقواعد العمل الصحفي المتعارف عليها في بريطانيا. فرغم أنها جهاز ممول من الصحف نفسها فإنها مستقلة عنها ولأحكامها الصادرة في الشكاوي المقدمة ضد أي صحيفة أو مجلة تأثير هائل علي السمعة الصحفية ومن ثم فهي أقرب إلي محكمة الصحافة التي تتولي محاسبة رؤساء التحرير علي مدي التزامهم بمدونات السلوك المتفق عليها في الوسط الصحفي... وكل هذه الهيئات لا تفرق بين وسائل الإعلام ذات الملكية العامة أو الإعلام الخاص الساعي إلي الربح.. فالقاعدة الأساسية هي أن اختلاف ملكية وتمويل الوسيلة المنتجة للإعلام لا يعني أن تضع كل وسيلة لنفسها قواعدها الخاصة متجاهلة حقوق المواطن البريطاني في الحصول علي إعلام متوازن يلتزم بالقانون وقواعد الإعلام المهني والأخلاقي.