كشف كلام المستشار محفوظ صابر وزير العدل السابق حول أولاد الزبالين عن حقيقة أكثر مرارة, وهي أن الفجوة بين الطبقات اتسعت إلي حد كبير, وارتفعت الأسوار لتفصل بين ألغنياء والفقراء, حتي كأننا لم نعد شعبا واحدا, فلكل شعب ضواحيه ومدارسة ومستشفياته ومواصلاته. فكبار رجال الأعمال يسكنون القصور الفاخرة, المحاطة بالأسوار العالية ورجال الأمن الخاص, والأقل ثراء يسكنون في منتجعات أو كانتونات تحيطها الأسوار أيضا, ولا يذهب أولاد الأثرياء إلي المدارس الحكومية, بل يدرسون في مدارس أجنبية مزودة بالملاعب والحدائق والمعامل, والمدرسون المؤهلون, بعضهم أجانب, ومناهج وأساليب تعليم متطورة, وتفوق مصاريف هذه المدارس دخل عشرات الموظفين, ولها باصات خاصة ومكيفة لنقلهم, وأمن يحميهم, وكذلك لايذهب الأغنياء إلي المستشفيات الحكومية, بل مستشفيات إستثمارية تشبه منتجعاتهم, بها أطباء حقيقيون يرعون المريض ويسهرون عليه, وممرضات أجنبيات أو خريجات كليات التمريض, وأجهزة حديثة للتشخيص والعلاج, وأدوية مستوردة. لقد انقسم المجتمع طولا وعرضا, وازدادت الأسوار ارتفاعا بين الطبقات, حتي أصبح من النادر أن يلتقي المنتمون إلي طبقات مختلفة بشكل إنساني, وأن يتبادلوا الحديث أو الجلوس معا إلا للحظات عابرة ونادرة, عبر عنها المستشار رفعت السيد, رئيس محكمة جنايات القاهرة الأسبق, بقوله إن الزبالين يتسولون, وهو قد رأي بالفعل بعض الزبالين يتسولون من أصحاب السيارات, عندما تتوقف حركة المرور في الشوارع أو فوق الكباري, لأن أجور الزبالين لم تعد تكفي قوت أولادهم, والمؤكد أن أمثال هذا القاضي يسرعون بإغلاق زجاج سياراتهم عندما يقترب منهم زبال, حتي لايسمعونه, ويشيحون بوجوههم بعيدا عن ملامحه البائسة, حتي لايتعكر مزاجهم من مجرد رؤيته عن قرب, ولا يبدون أي تعاطف أو شفقة علي أحوالهم. كان من المستحيل أن يقول وزير أو أي مسئول عبارة كتلك التي قالها وزير العدل في الستينات أيام حكم عبدالناصر, عندما كان الجميع يتعلمون في مدارس حكومة ويتلقون العلاج في مستشفيات عامة, وكان تذويب الفوارق بين الطبقات هو شعار هذه الفترة, وبالفعل كان الزبال قادرا علي إطعام وعلاج أولاده, وتعليمهم في الجامعات التي كانت تجمع ابن الوزير مع ابن الخفير, لكن الأمر بدأ يتغير مع سياسة السادات وعصر الانفتاح الاقتصادي, لتتسع الفجوة يوما بعد يوم, وتظهر المدارس الخاصة, ثم الأجنبية, وتتهاوي المدارس الحكومية, ويتدهور مستوي التعليم فيها, وكذلك ظهرت المستشفيات الخاصة والاستثمارية لينهار العلاج في المستشفيات الحكومية, ويزداد الأغنياء غني, ويزداد الفقراء فقرا, حتي وصلنا إلي حد الإنفصال التام مع نهاية عهد مبارك, وأصبحنا شعوبا تعيش في معازل شبيهة بتلك التي كانت في جنوب إفريقيا, ولهذا لم يعد غريبا أن نجد كاتبا يدعو لقتل أطفال الشوارع, لأنهم يشكلون خطرا متفاقما علي المجتمع, أو قاضيا يتأفف من أبناء الزبالين, ويري أن مهنة القضاء الشامخ لايمكن أن تنحط بأمثالهم, وأن مهنا متدنية تناسبهم أكثر. كلمات وزير العدل لم تكن أكثر من تعرية للواقع, قالها بصوت مسموع, بعد أن كانت تتردد في الجلسات الخاصة, ولهذا فإن كلامه ليس هو الصادم, لكن الواقع هو الأكثر إيلاما, وينذر بالخطر, فالفقراء يتضورون جوعا, والزبالون وغيرهم من صغار الموظفين يتسولون, والدولة تحصن امتيازات الأغنياء, ولم تقترب من200 مليار جنيه تذهب إلي جيوب الفاسدين الأغنياء سنويا, وفقا لتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات, وهو مبلغ كفيل بتطوير الصعيد الذي يهجره أبناؤه, لعدم وجود فرصة عمل, ويسكنون عشوائيات المدن, بحثا عن أي عمل شريف, يوفر لهم لقمة العيش. إننا أمام خطر داهم بسبب هذه الفوارق الضخمة بين الفقراء والأغنياء, وإذا استمر هذا الحال فإنه قد يؤدي إلي إنتفاضات وأعمال عنف ممن لايجدون القوت, وربما تتهاوي تلك الأسوار العالية, ويندم وزير العدل السابق وأمثاله علي أنهم نسوا أن يطالبوا ببعض العدل, وأن يتحدثوا عن حقوق الزبالين وأمثالهم من الفقراء والمهمشين, ليعيشوا بكرامة, وليس أن يتأففوا منهم.