أى سلطة تسعى لتكريس شرعيتها من خلال الإنجاز، لأن ما سواه من شرعية أو شعبية تتآكل طال الأجل أم قصر، والإنجاز بدوره بحاجة لثلاثة عوامل حتى يتحقق فعليا، أولهما، السياسات الواضحة، ولا شك أن ثورة 25 يناير وموجاتها حددت رؤيتها ومطالبها بوضوح، وثانيهما، الموارد اللازمة لتنفيذ السياسات وهى وإن كانت غير كافية لكن المتوافر منها مهدر معظمه بحكم سوء الإدارة وتغلغل الفساد، وثالثهما، الأجهزة والمؤسسات المنوط بها تنفيذ السياسات، وقد تركها نظام مبارك كآلات ذات تروس متآكلة. فتلك المؤسسات والأجهزة ظلت على حالها ردحا من الزمن دون تطوير أو تغيير؛ حتى تمكن منها الفساد والعطب وحُجبت عنها المراقبة وحُرمت الشفافية، وزاد الأمر صعوبة أن تلك الأجهزة والمؤسسات أصبحت إقطاعيات خاصة، ومناصب يهديها الآباء للأبناء، بصرف النظر عن معايير النزاهة والتأهيل العلمى والعقلى ناهيك عن الاتزان النفسى، والمهارات الخاصة، ومن ثم حرمت الدولة من الكفاءات التى كان يفترض أن تقوم بتدوير تلك الأجهزة والمؤسسات وتغذى أوصالها، وهو فى النهاية ما أفقدها التجدد والحيوية والقدرة على الاستمرارية، وبالطبع لم تتوقف الخسارة عند هذا الحد بل ضعفت ثقة المواطنين فيها، وضعف بالتبعية الانتماء الوطنى، وهو ما يعنى أننا كنا بصدد تهديد وجودى، وليس أدل على أن شيئا لم يتغير من أن دولة مبارك عادت لتطل علينا من جديد مبرأة من كل ذنب. وهنا يمكن فهم حقيقة 25 يناير بأنها لم تكن مجرد حركة تصحيحية أو غضبة فئوية، بل كانت استشعارا وطنيا صميما بأهمية الحفاظ على الدولة وحماية مؤسساتها المنتكسة قبل الانهيار المحتوم الناتج عن الخلل الوظيفى لتلك المؤسسات، والقيام بعملية تحديث وتغيير لأفرادها الفاسدين، وقواعدها الشائخة، وقوانينها المفصلة؛ لذا كان شعار الثورة الرئيسى هو "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو فى جوهره يعنى أن "الشعب يريد بناء نظام جديد"، نظام قابل للحياة يتم فيه استبدال نظام المحسوبية والفساد واللاقانون بنظام قائم على العدل والمساواة والشفافية وسيادة القانون. إلخ. ولا شك أن التغيير كلمة شديدة الوطأة لا سيما إذا كان متعارضا مع المصالح والأوضاع التى أمنت استقرارها لسنوات، لذا فالمحاسيب وبعض المنتفعين كانوا ومازالوا ضد التغيير، ودائما يبذلون جهدهم لإجهاض أى محاولة تحد من نفوذهم وسلطتهم، فهم تصوروا من طول سنوات إحكام قبضتهم على مواقعهم أنهم فوق الدولة وفوق القانون، وهذا الوضع بلا شك كشف عن البون الشاسع بين مصالحهم الخاصة ومصالح هذا الوطن، ولا يمكننا بحال من الأحوال أن ننكر أن بعض المؤسسات ما زالت تعيش بممارساتها فى زمن دولة مبارك. لكن أهم ما فى يناير وما بعدها من موجات أنها رسمت مسارا واضحا ووحيدا لتحقيق الإنجاز والنجاح على كافة الأصعدة، وأن أى التفاف حول هذا المسار أو الطريق لا يفضى إلى استقرار أو تقدم، لا سيما وأن ما أصبح بوسع الدولة أن تنفق من مواردها المحدودة على المحاسيب وأبنائهم، وما أصبح بوسعها تستمر فى أن تؤمن لهؤلاء المحدودين المراكز والمواقع وتفتح لهم أبواب الثراء والمكانة، فى ذات الوقت الذى يضغط فيه هؤلاء على أوردتها وعصبها تحت تأثير انعدام الكفاءة والإمكانيات وضعف التأهيل لتبقى مشلولة وعاجزة إلا عن دعم مكانتهم وملء جيوبهم. كما أن ثمة رسالة واضحة وصريحة ليناير وما بعدها، وهى كتالوج النجاح لأى صانع قرار، مفاده ضرورة الشروع فى قيادة عملية الإصلاح والتغيير بحسم ودون تردد وبأى تكلفة كانت، استنادا إلى الزخم الشعبى القاهر لكل إرادة باطلة، أو ورثة غير شرعيين، أو قاعدة قانونية غير عادلة. فضلا عن أن هذا الحراك المستمر بمثابة توكيل من الشعب لكل سلطة ولكل صاحب قرار، لكنه مرهون بعدم الخوف من مراكز القوى ومصالحها لأن الوطن أهم من الأفراد، وبقاء الدولة مقدم على بقاء المحسوبيات، وإلا فسنظل دائما فى حالة قلق وتوتر مجتمعى ناتج عن غياب العدل فى كافة المؤسسات واهتراء مرافق وأدوات تحقيقه.