يبدو أن السمة السائدة في مصر الآن هي اتباع أسلوب التلميذ الخيبان في حل المعضلات والمشكلات, وهو الأسلوب الذي يعتمد علي اللجوء للكتاب الخارجي الذي يقدم حلول المسائل الحسابية في آخر الكتاب وذلك حتي يراجعها التلميذ الذكي بعد أن يحل المسألة. لكن زميله الخيبان ينقل الحل أولا من الكتاب, ثم يحاول أن يبني عليه المسألة ترتيبا تصاعديا معكوسا. وبمعني آخر انه يلفق الإجابة. تذكرت هذا الأسلوب في علاج الأمور حين قرأت خبرا قبل يومين مفاده أن وزارة النقل تفكر في منع سيارات الميكروباص علي الطريق الدائري والأتوستراد نظرا لما تسببه من فوضي مرورية وحوادث عديدة. ولا أخيفكم سرا إن قلت لكم أن قلبي انشرح وتفاءلت خيرا ما أن قرأت السطور الأولي من الخبر. وشطح خيالي المريض بعيدا, وتخيلت الطريق الدائري الذي اضطر أحيانا إلي إلغاء مشاوير مهمة, أو الاعتذار عن فعاليات كنت أحب أن أحضرها خوفا من هذا الطريق البشع الذي بات يلقب ب طريق الموت عن جدارة. وهو في ذلك شأنه شأن الأتوستراد الذي بات أقرب ما يكون إلي حلبات المصارعة الدموية التي كانت سائدة في العصور الوسطي. فكلاهما جدير بأن يرفع شعار ممنوع الاقتراب لضعاف القلوب. فضاء بلا ميكروباص وأعود إلي مشاعري الخبيثة! فقد حلقت في فضاء خال من سيارات الميكروباص التي أمقتها إلي حد مرضي, وتخيلت العالم وقد خلا منها تماما, وخيم الهدوء وانتشرت السكينة في أرجاء المعمورة. وعم الخير والرخاء, وساد العدل والسلام, و.. صحوت من غفوتي علي صوت فرملة شديدة في الشارع كتلك التي كنا نسمعها زمان في أفلام الأكشن الأمريكاني حين تبدأ مطاردة بين أفراد العصابتين المتناحرتين. وهرعت كالعادة إلي النافذة, ورأيت المشهد المعتاد. معركة كلامية حامية الوطيس بين سيارتين, إحداهما ملاكي, والثانية سيارة تابعة لوزارة مهمة. وتصاعدت حدة المعركة حتي وصلت إلي أقصي درجات الشتائم, و.. كالعادة أيضا, انفضت الخناقة, وذهب كل منهما إلي حال سبيله. هنا أيقنت كم كنت محدودة التفكير وقاصرة الرؤية. فرغم أن سائقي الميكروباص يحظون بنصيب الأسد في معدلات السلوك الإجرامي في الشوارع, ورغم أنهم أصحاب السمعة الأسوأ من حيث تدني الأخلاق وقلة الأدب, ورغم أنهم يتصرفون في أغلب الأحوال باعتبارهم كائنات بوهيمية خارجة علي القانون والعادات والأعراف وقوانين الطبيعة, إلا انه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحملهم أكثر من طاقتهم. فصحيح أنهم ساهموا ومازالوا بقدر غير قليل علي الإطلاق في تدني الذوق العام والخاص في مناح حياتية عدة بدءا من أسلوبهم في القيادة الذي لا يمت للقيادة بصلة, ومرورا بطريقتهم المزرية في الكلام, وانتهاء بميولهم الفنية الغنائية والتي لوثت أذواق أجيال عدة من الراكبين من الشباب والأطفال, إلا أنه ليس من العدل أن نحملهم وحدهم وزر الحالة المرورية المزرية التي نئن منها. المنع هو الحل وعدت لقراءة الخبر مجددا, ولاحت لي أبعاد أعمق وأوقي من المأساة المرورية الشارعية التي نعيشها. فكيف يمكن أن يكون هذا هو الحل الأمثل لمشكلة المرور المستعصية؟ يعني كلنا يعلم مثلا أن هناك سائقين معينين مثلا تابعين لوزارات بعينها معروف عنهم الرعونة والتهور وأنهم يرتعون في شوارع المحروسة دون رادع, وأن الجميع يخشاهم بمن فيهم سائقو الميكروباص الأشاوس أنفسهم. فهل ستفكر وزارة النقل في إصدار قرار يمنعهم هم كذلك من القيادة في المحاور الرئيسية؟ وماذا عن أولاد الكبار الذين يرتعون هم كذلك في شوارع المحروسة ليلا نهارا دون أن يقول لهم أحد ثلث الثلاثة كام؟! هل رأي أحدنا من قبل ضابط مرور يوقف قائد سيارة أرعن يقود سيارته قيادة ياقاتل يا مقتول( وما أكثرهم!) أشك! طيب, ما عدد قادة السيارات في مصر الذين يلتزمون بالحارات المرورية ولا يتلوون كالثعابين الرقطاء أثناء القيادة؟ وما نسبة قادة السيارات الذين يستخدمون شيئا اسمه اشارات اليمين واليسار؟ واذا استخدموها, هل يعيرهم من حولهم انتباها لتلك الإشارات؟ أم يكسبون عليهم وكأن الإشارة تعد علي حقوقهم وكرامتهم؟ وإذا كان هؤلاء لا يستخدمون الاشارات, واولئك لا يفقهون معناها, فمن الذي أصدر لهم رخص قيادة أصلا؟ المؤكد أن وضع المرور المفرط في البزرميط لا تحله قرارات بزرميط! وقد ذكرني هذا التفكير من قبل وزارة النقل الذي يميل إلي منع مرور الميكروباص بسبب حوادثهم العديدة بخبر سار آخر خرج علينا قبل سنوات قليلة حين صدر قرار بزيادة نسب التأمين المستحقة لقتلي ومصابي حوادث المرور بعد ما زادت نسبتها بدرجة كبيرة, وكأن حل كارثة قتلي ومصابي الطرق هي تعويض ذويهم بقدر أكبر من المال!! نحن في الصدارة وقبل أيام كان اليوم العالمي لذكري قتلي حوادث الطرق, وفي هذه المناسبة تم الاعلان عن عدد من الأقارم والإحصاءات. وفي الوقت الذي نشكو فيه من قلة تصدر لقوائم الدول والأمم في التقارير الدولية الخاصة بالإنجازات والانتاج والأعمال, تبوأت مصر مكان الصدارة من حيث معدلات اصابات حوادث الطرق. وبحسب الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فقد وقع793 و22 حادث سيارة في عام2009( أكيد الحوادث البسيطة من احتكاكات وتصادمات وخرشمات والذي منه ليست مدرجة وإلا تضاعف العدد آلاف المرات) وذلك بزيادة قدرها9 و8 في المائة عن عام2008. واتضح أن العنصر البشري هو المتسبب الأول في68 في المائة من الحوادث, يليه عامل انفجار اطارات السيارات بنسبة21 في المائة. والحقيقة أن مثل هذه النسب تسهل حل العملية الحسابية المقعدة تماما. فلدينا كل المعطيات التي لاتحتاج منا إلا إجراء عملية حسابية غاية في البساطة لنحلها. فلماذا نرفض الحل؟!!! وحتي تكون الأمور أسهل وأسهل, أؤكد ملاحظة بالغة الدقة أن وجود الإشارات الإلكترونية يجعل من قائد السيارة المصري الفتاك الفكيك الفتك الذي لا توقفه إشارة ولا تعرقل مسيرته قواعد وقوانين حبيسة المراجع أشبه بقائدي السيارات في الدول التي تفخر بنظمها المرورية الصارمة واتباع قائدي السيارات القواعد بحذافيرها وقد تأكدت مصداقية هذه الملاحظة حين طالعت في جريدة الشروق المصرية اليومية تصريحا عن مدير الإدارة العامة لمرور الجيزة اللواء كامل ياسين يؤكد فيه أن الإشارات الإلكترونية تجعل هناك التزاما غير عادي( غير عادي طبعا لأن كلمة الالتزام في حد ذاتها أصبحت سبة في الجبين, فالملتزم جبان وعديم الشخصية في عرف الألفية الثالثة المصرية) وأضاف ياسين أن المواطنين التزموا نظرا لعدم تدخل العنصر البشري( لاحظ ان تدخل العنصر البشري بالنسبة لعموم المصريين بات مدعاة لعدم الإلتزام أو ربما لمعرفة مسبقة بأن العنصر البشري لديه نفس امارة بالسوءوجيب خاو ويد لا تمانع في أن تمتد لتشرب الشاي أو تتلقي عيدية عيد لم يحن بعد) وقال اللواء كامل ياسين كذلك أن المواطنين يعرفون أن الإشارة الإلكترونية ستسجل المخالفة التي يرتكبونها( وهذا يدل علي أن المخالفات المستمرة في شوارعنا ليست نابعة عن جهل بقواعد القيادة بالضرورة بل ثقة بغياب تطبيق القانون بالضرورة) وطار قلبي فرحا وغبطة حين عرفت من كلمات مدير الإدارة العامة لمرور الجيزة أن الإشارات الإلكترونية لا تسجل فقط كسر الإشارات, ولكن التحدث في المحمول( من لا يتحدثون في المحمول أثناء القيادة هم قلة قليلة) وكذلك تجاوز السرعات المقررة( هل لاحظ أحدكم من قبل السرعة المقررة في نفق الأزهر والسرعة الفعلية للسيارات في داخله؟ وهل لاحظ أحدكم السرعات المقررة أعلي كوبري6 أكتوبر والسرعات الفعلية التي تقذف أحيانا بسيارات من اتجاه لآخر وتقتل وتصيب الكثيرين أعلي الكوبري؟) عنوان المكان المؤكد أن أحد العناوين الرئيسية للدول وأول الانطباعات التي تؤخذ لدي زيارة دولة ما تكون من خلال المرور وليس بالضرورة السيولة المرورية أو مقدار خلو الشارع من المركبات, ولكن الطريقة التي يقود بها البشر سياراتهم والتي سمعت بنفسي أوصافا من قبل أجانب وحتي من عرب زاروا مصر لن أتمكن من نقلها لأنها تخدش الكرامة وتجرح ما تبقي من كبرياء ولكن ما يؤلم أكثر منها هو أنها حقيقة! ملاحظات صحفية حين أطالع بعض الاخبار الواردة من بعض الدول العربية الشقيقة ونصف الشقيقة ينتابني إحساس أنها منقولة من معلقات أو وثائق تعود إلي عام مائة أو مائتين هجرية بالكثير. شعور مشابه ولكن في الاتجاه المعاكس أشعر به حين أطالع أخبارا واردة من دول اخري لا تقع بالضروة في نصف الكرة الشمالي, أو الغربي, بل من الشرق الأقصي والأدني كذلك فأشعر أحيانا أن أخبارهم تلك هي التي ستحدث بعد ألف عام من الان. وهذا يعني أنه إما نحن متخلفون جدا أو انهم متقدمون جدا, وكلا الاحتمالين يعني أننا نعيش في زمن غير الزمن. أطالع أخبارا لا حصر لها عن ضمانات بنزاهة الانتخابات وشفافية الإجراءات, ثم أسمع تعليقات وآراء من الشارع تدور حول خوف من التعرض للضرب أو الإهانة في أثناء الإدلاء بالصوت من قبل بلطجية هذا المرشح أو ذاك.( بالمناسبة أقترح علي المرشحين الباحثين عن بودي جاردز والذين يلقبهم البعض ظلما وعدوانا ب البلطجية أن يستعينوا بالبودي جاردز آبطال أحداث جامعة عين شمس, وللعلم الوصول لهم سهل جدا, ويكفي الاطلاع علي أي من مقاطع الفيديو التي يحفل بها الإنترنت حيث تبدو وجوههم وأجسادهم و... إحم.. أدواتهم من أحزمة ومطاوي وغيرها واضحة وضوح الشمس إلا بصحيح هو إدارة الجامعة لم تعثر عليهم بعد لتحقق معهم وتعرف الجهة أو الشخص الذي سلطهم علي فعلتهم ولا لسه؟) أسمع كذلك تعليقات كثيرة حول حتمية النتيجة والتشكك في جدوي تكبد عناء الإدلاء بالصوت, وهي تعليقات بالطبع بالغة السلبية, ولكن ربما تحتاج إلي وقفة وفهم وتحليل! اغمض عينيك وتخيل معي أن قنوات الرياضة أو بالأحري قنوات كرة القدم وبرامج التحليل الكروي غيرت نشاطها وأصبحت قنوات تعمل علي إعادة زرع الأخلاق وبرامج غرس القيم في المصريين المؤكد أن مصر ستتصدر دوري الأمم في الأخلاق وبطولة العالم في الذوق واللياقة والنظافة تبقي مشكلة واحدة فقط! لو حصل وغيرت القنوات والبرامج نشاطها الكروي إلي القيمي, فأغلب الظن أن نسبة المشاهدة ستكون صفرا.