أيها الفلاسفة شيدوا منازلكم فوق أفواه البراكين.. هكذا تحدث نيتشه حين أراد أن يصور ما يجب أن تموج به حياة الفلاسفة من قلق وتوتر وتشوف للحقيقة واستعلاء علي حياة السكون والسكينة والسلام إلي نشوب الثورة العقلية في حياة الشعوب, وبذلك الدستور الفكري آمن كل الفلاسفة واستغرقوا أنفسهم في تحليلات وتفسيرات لا نهائية أملا في دفع الإنسان نحو غايات عليا تعصمه من زلات الواقع. ولم يكن الفيلسوف المصري الكبير الدكتور عبد الرحمن بدوي إلا من هؤلاء الفلاسفة فقد آثر ألا تكون مسيرة حياته الفكرية علي هامش الحقائق, فهو وإن اغترب مكانيا عن مصر المحروسة ما يتجاوز نحو أربعين عاما إلا أنه قد عاش هذا الاغتراب الزماني طيلة حياته وحتي آخر لحظاته, ويعلم الكثيرون أن الدكتور بدوي كان من أنجب تلامذة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ولقد دفعه حبه لأستاذه وافتتانه به إلي محاولة الاشتباك في تلك المعارك الأدبية والفكرية الساخنة والتي شهدها النصف الأول من القرن العشرين, والتي أشهرها ما كان بين العقاد والعميد حول سلسلة العبقريات ويومها أقسم دكتور بدوي لو سمح له العميد لنسف ما يسمي بالعبقريات وهدمها فكريا لكن السؤال الملح والذي يطرح دائما حين تبدأ حياة الفيلسوف أو المفكر في الانزواء, هو ماذا قدم للثقافة العربية والكونية أيضا في إطار دوره النخبوي؟ والحقيقة أن الإسهامات الفكرية للدكتور بدوي قد تعددت وتشعبت فنراه وقد نقل للثقافة العربية درر وروائع الفلسفة اليونانية وأمهات الكتب الكلاسيكية وقدم دراسات عن أعلام الفلسفة الحديثة مثل نيتشه, شبنجلر, شيلنج, شوبنهور, وقدم أيضا دراسات إسلامية تصل إلي نحو ستة وثلاثين مجلدا في إطار تحقيق للنصوص العربية وغيره من دراساته عن ابن سينا, ابن رشد, الغزالي, أبي يزيد البسطامي,, التوحيدي, ابن سيرين, أبي سليمان المنطقي, ابن عربي, كما قدم أطروحات فكرية رائدة حول تاريخ الإلحاد في الإسلام, الإنسانية والوجودية في الفكر العربي, دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي, شخصيات قلقة في الإسلام إضافة إلي مشروع الروائع المائة التي تمثل ترجمات عن الأدب الرومانسي الألماني شعرا ونثرا, وغير ذلك علي مستوي العمل الموسوعي كانت هناك موسوعة المستشرقين المتناولة لأعلام الاستشراق وتمتد فيها دراسة الاستشراق عبر العصر الوسيط والحديث أما موسوعة الفلسفة فهي تضم أعلام الفلسفة ومدارسها ومفاهيمها وموضوعاتها وتاريخها. وبصفة عامة قدم دكتور بدوي ما يصل إلي نحو مائة وخمسين عملا فكريا متميزا ما بين فلسفة التاريخ وفلسفة الحضارة وفلسفة السياسة وفلسفة الجمال والتراجم الشخصية الأدبية والتصوف والفلسفة الوجودية وإشكاليات الفكر العربي. أن حياة دكتور بدوي تمثل ملحمة صاخبة من النضال الفكري الدؤوب الذي كانت ثمرته مشروعا فلسفيا نهضويا أحدث ثورة عارمة داخل تيارات الوعي العربي, لكن هل استطاع هذا الوعي العربي أن يحقق ذاته بين الثقافات الكونية؟ من ثم كيف يكون مستقبل هذا الوعي بعد عبد الرحمن بدوي؟ وما هي الإشكاليات الفكرية التي سوف يطرحها علي ذاته وما تلك التي سوف يطرحها علي الثقافة الإنسانية لا سيما بعد مرور ألف عام لوفاة آخر فيلسوف عربي. إن مهمة المفكر المعاصر بعد الدور التأسيسي الذي قام به د. بدوي يجب أن تساير حركة التاريخ الفكري في أوروبا والغرب عامة في إطار وجود موقف نقدي تحليلي تجاه الآراء والأفكار والنظريات في محاولة لإعادة صياغة مشكلات الثقافة الكونية وبث روح الثورة في الفكر العربي لاستنطاق أدوات الجمود التي تمثلها المفاهيم العتيقة عن الأشياء والأحداث. ويبقي لنا من د. بدوي تراثه الخالد وروحه الثائرة التي أيقظت الفكر العربي لأكثر من نصف قرن.