طه حسين - العقاد - محمد حسين هيكل - توفيق الحكيم - أحمد أمين - سلامة موسي - حسين فوزي وغيرهم من بناة النهضة المصرية في القرن العشرين لهم في نفسي مكانة عظيمة، فكريا وثقافيا وادبيا وسياسيا. وتفاوت المكانة في نفسي لكل منهم لا ترجع الي المفاضلة الفكرية فقط . ولكن الي الظروف التي قرأت فيها كلا منهم . والاوقات العظيمة التي أنفقتها في قراءتهم. من هؤلاء المرحوم الدكتور عبد الرحمن بدوي . الذي عرفته مبكرا جدا مثلهم . الاأنه خطفني . عرفته وانا في سن السادسة عشرة من عمري . هل لك أن تتخيل ذلك ؟ وقع في يدي كتابه عن نيتشة ورحت اقرأه بنهم . وحين قرات قائمة أعماله ومؤلفاته ,عبد الرحمن بدوي , وجدتها رهيبة ومن بينها عنوان " الروائع المائة ". اي مائة كتاب رائع يترجمها هومن تراث الانسانية , طبعا هو لم يصل الي هذا الرقم من الترجمة . لكن مؤلفاته وصلت او زادت عن المائة وخمسين . ولا أزعم اني قرأتها كلها لكن قرأت ماوجدت روحي تهفو اليه منها . ومن بينها شخصيات قلقة في الاسلام والأدب الالماني في نصف قرن والاشارات الالهية لأبي حيان التوحيدي والانسانية والوجودية وشلنج والموت والعبقرية ورابعة العدوية شهيدة العشق الالهي ومن تاريخ الالحاد في الاسلام وفلسفة القانون والسياسة لكانت ودون كيخوتة ومسرحيات اسخيلوس وسوفوكليس وربيع الفكر اليوني وخريف الفكر اليوناني وشوبنهاور وغيرها وغيرها من الكتب الفلسفية بالذات وعلي رأسها الوجود والعدم الذي قرأته وأنا في الرابعة والعشرين من عمري . وهكذا ظل يمشي معي أيام الشباب . وكنت في الجامعة في قسم الفلسفة مميزا بين زملائي بهذه القراءات المبكرة لمفكر وفيلسوف ذي عقل جبار .حين يأتي ذكر عبد الرحمن بدوي أمامي أتذكر أيام الاقبال علي الحياة بطاقة روحية تتجاوز ماهو حولي فأنت في الجامعة قد تجد مدرسا لا يحب الا ما كتبه هو ومنهجه هو في التفكير , وكان ذلك يسبب لي حرجا وأحيانا مشاكل مع بعض الاساتذة حين أناقشهم بينما يسبب اعجابا عند الآخرين وعلي رأسهم الدكتور عبد المعز نصر وعثمان أمين وعلي سامي النشار وفتح الله خليف الذين كانوا لا يخفون اعجابهم بمناقشاتي ودهستهم رحمهم الله . لماذا أكتب عن عبد الرحمن بدوي الآن؟ لأبتعد عن الساسة قليلا. رغم أن الساسة تسببت في خروجه من البلاد لسنوات طوال منذ عهد عبد الناصر . لم يكن ممكنا لروح كروح عبد الرحمن بدوي أن تتسق مع عصر الفرد والديكتاتورية مهما كانت مزاياها الاجتماعية والاقتصادية. وطبعا لم يعد من الخارج أيام السادات ولا مبارك الا للدفن في موطنه .ارتحل الي أكثر من بلد عربي ثم استقر في فرنسا . وهل غير فرنسا تليق بالفلاسفة .؟ ذهبت الي فرنسا كثيرا وسألت عنه فكان من أسأله يقول لي انه قليلا ما يحب أن يقابل احدا . اكتفيت بسعادتي أن امشي في شوارع باريس وازقتها الجميلة واتذكر أن عبد الرحمن بدوي يعيش هنا .كم شخص مثلي قرأ هذا الفيلسوف . لا شك الآلاف . وفي الاسبوع الاخير هذا أهداني الصديق محسن بدوي ابن أخيه صاحب صالون عبد الرحمن بدوي عددا من كتبه . كل كتاب نظرت اليه تذكرت الليلة أو الليالي التي أنفقتها في قراءته في الشتاء موسم القراءة والانتاج بالنسبة لي . ومن بينها كتاب رسالة في التسامح للفيلسوف الانجليزي جون لوك. وما أحرانا اليوم أن نقرأ هذا الكتاب لنعرف شيئا عن التسامح الذي افتقدناه، وربما نتذكر أيضا أننا كنا في يوم ما شعبا من المتسامحين. وكانت مدننا ملاذا لكل الديانات والاجناس فتقدمت مصر وصارت درة بين الأمم . أتحدث عن الفترة الممتدة من عصر اسماعيل الي ثورة يوليو والي حد ما الي ستينات القرن الماضي . أين ذهب هذا الماضي الجميل وكيف حقا صار منا فريق يري انه هو الذي يمتلك الحقيقة واذا ناقشته يتحدث فجأة باسم الله كأنه مفوض عنه . ولم تتاخر الأمم ولم تقم الثورات العظمي في التاريخ إلاضد اولئك الذين يتصورون أنهم ظل الله علي الارض .