لاشك ان الديمقراطية تمثل للكثيرين المفتاح السحري إلي عالم جديد وسعيد, لكن يبدو ان اختلاف الفهم جعل من الديمقراطية مفهوما مطاطا يصعب الامساك به, وحولها إلي عملية معقدة للبعض وبسيطة للبعض الآخر, فالحلم, مثلا, بتحول روسيا إلي دولة ديمقراطية, راود الجميع بعد انهيار الاتحاد السوفيتي, النخبة والعمال والفلاحين والطلاب والاكاديميين والعسكريين والمدنيين, الأغلبية ارادت ان تسخرها لخدمة مصالحها, وأصحاب العقول التجارية النيرة اتخذوها وسيلة للالتفاف علي القانون, أما الأثرياء الذين جمعوا ثرواتهم بطرق غير مشروعة, فالديمقراطية في قاموسهم لا تعني إلا امكانية انفاق الأموال مجهولة المصدر دون أية قيود او ضوابط, وبقيت قلة حالمة من الكتاب والصحفيين تتطلع للتخلص من قيود الرقابة, بينما يأمل العامل والفلاح أن تساعدهما الديمقراطية في رفع أجرهما, لكن يبدو ان الأمور اصعب من ذلك. الديمقراطية بصورتها المبسطة, تعني ان باستطاعة الإنسان ان يشارك في الانتخابات او يجلس في البيت إذا شاء, وبإمكانه ان يوجه نقدا لاذعا لرجال الدين او السياسة, او يقرأ ما يشاء من كتب او يشاهد مايرغب من أفلام, كما أن الحرية الاقتصادية متوفرة وعلي المواطن ان يختار البضائع الغالية او الرخيصة, بل وباستطاعة اي مواطن ان يعارض الثنائي الحاكم ميدفيديف بوتين وأن يخرج لسانه تعبيرا عن استيائه وسخريته من هذا المسئول او ذاك, ولكن هل يمكن لكل ذلك أن يغير في الواقع شيئا عندما تتخذ الديمقراطية طابعا شكليا بحتا؟ من الواضح ان هذا النوع من الديمقراطية يمكن ان يضمن استقرارا سياسيا محدودا وهشا لفترة معينة, لكنه لا يستطيع, علي المدي البعيد, إخراج الدولة من مستنقع التخلف. صحيفة( ارجومينتي اي فاكتي) الروسية اوردت بعض الحقائق المذهلة في هذا الصدد, فرأت ان استطلاعات الرأي كشفت عن خيبة أمل كبيرة في النظام السياسي القائم حاليا, حيث أعرب84% ممن استطلعت آراؤهم عن قناعتهم بأنهم لا يستطيعون ان يغيروا اي شيء في سياسة الدولة, مما يعكس بصورة أو بأخري ان النظام القائم في صورته الحالية يبدو عقيما وضيق الأفق, بل وأثبت عجزه عن تحقيق التقدم في مجالات عديدة, علي رأسها التعليم, والصحة, والبحث العلمي, والتحديث عموما. اما عن الفساد فحدث ولا حرج, وإذا كان الحديث سيدور هنا عن بعض الأقاليم الروسية, فمن الممكن مد الخطوط علي استقامتها, حيث يتجلي في اعتي صورة, هكذا تشير الأوضاع الأمنية في منطقة القوقاز علي الرغم من التطمينات التي توزعها السلطات, غير ان المنطقة الأكثر سخونة هي داغستان, وفقا لأسبوعية( سوبيسيدنك) الروسية, وإذا ما اندلعت الحرب في هذا الإقليم المتعدد القوميات فستفوق في نطاقها وضراوتها حرب الشيشان. المثير ان المتمردين في داغستان ينقسمون إلي ثلاث فئات: المتطرفون الدينيون, والمجرمون الفارون من وجه العدالة, والأشخاص الذين تعرضوا للإهانة من طرف السلطات المحلية, والفئة الأخيرة بالذات, ومعها قسم من الثانية, تنتقم من جميع رجال الشرطة والمسئولين دون تمييز, ويبدو ان تفشي الفساد في داغستان يلعب دورا محوريا. والاحصائيات التالية علي ذمة اسبوعية( سوبيسيدنك), فلتسجيل طفل في الروضة يجب دفع رشوة للمسئولين, أما التسجيل في الجامعة فيكلف ما بين10 و15 ألف دولار, بينما الحصول علي وظيفة في القطاع الحكومي يكلف اكثر من ذلك حتي الالتحاق بأقسام مكافحة الفساد والتطرف يتم في احيان كثيرة بواسطة الرشوة, وقد يصل المبلغ إلي100 ألف دولار, وبعد أن يتسلم الموظف الجديد مهام منصبه في القسم يبدأ باختلاق قضايا جنائية لتعويض مادفعه من رشاوي, ولنتصور اي قضايا يمكن اختراعها وتلفيقها! اما منصب رئيس البلدية فيكلف مليوني دولار, بينما تصل تعريفة منصب عمدة المدينة إلي5 ملايين دولار, ومن لا يملك الأموال اللازمة فلا أهمية له إلا إذا حمل رشاشا. صورة أخري من صور الفساد, حسب صحيفة( فيريميا نوفوستي), التي رأت أن كبار ممثلي السلطة المحلية في إقليم الشيشان يؤكدون المرة تلو الأخري ولاءهم الشخصي لرئيس الوزراء فلاديمير بوتين, وكأنهم يتناسون ان للبلاد رئيسا, فقد أعلن دوكفاخا عبد الرحمان نوف رئيس البرلمان الشيشاني الذي تعرض أخيرا لهجوم مسلح أنه بوسع حزب السلطة روسيا الموحدة الحصول علي115%, بل و120% من أصوات الناخبين في الشيشان, لان بوتين يتزعم هذا الحزب من جهة, ومن جهة ثانية لكون رمضان قاديروف هو الأب الروحي للشعب الشيشاني بغض النظر عن أنه لم يتجاوز34 عاما. ورمضان يدعو للتصويت لروسيا الموحدة مؤكدا ان الناخبين ما كانوا ليصوتوا لصالح روسيا الموحدة لو لم يكن هذا الحزب بقيادة بوتين وبقيادته ايضا, اي قيادة قاديروف, وفي مقابلة مع مجلة نيوزويك أعلن رمضان: مثلي الأعلي هو فلاديمير بوتين, وأتمني ان يكون رئيسا مدي الحياة, اما الذين ينتقدون بوتين فهم أعداء لي شخصيا, وطالما كان بوتين يدعمني فبوسعي ان أفعل اي شيء.. والله أكبر رئيس الشيشان رمضان قاديروف يدعو أيضا إلي إلغاء القيود الدستورية التي تحدد مدة ولاية الرئيس, وكان قد دعا عشية انتخاب ديمتري مدفيديف إلي انتخاب بوتين رئيسا لروسيا مدي الحياة. الخطير في الأمر, ان المفوض الرئاسي في شمال القوقاز الكسندر خلوبونين اعترف علي الملأ بأن سلطات الإقليم كانت في حالة خمول طيلة السنوات العشر الأخيرة, مما أسفر عن استشراء الفساد وانتشار مختلف انواع الجرائم المسلحة والصراع علي الممتلكات والثأر والانتقام!