في مؤتمره الصحافي الوداعي الذي عقده في بغداد، بتاريخ 14/12/2008، قال الرئيس بوش أنه أمر باحتلال العراق في العام 2003 دفاعاً عن الأمن القومي الأمريكي أولاً، ومن أجل تحقيق الديمقراطية في العراق ثانياً! ومثل هذا القول يغدو مجرّد وقاحة وأحجية يصعب فهمها على المستمع الذي لا يلمّ إلماماً كافياً بحقائق ووقائع هذا العصر الأوروبي الأمريكي ونظامه العالمي، إذ كيف يمكن للعراق أن يهدّد الأمن القومي الأمريكي وقد ثبت أنه لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل ولم تكن له صلة بتنظيم القاعدة؟ وأية ديمقراطية هذه التي أبادت مئات الألوف من العراقيين ووضعت العراق بمجمله على حافة الهلاك؟ ولذلك كان مفهوماً تماماً أن يهبّ الصحافي العراقي الشجاع منتظر الزيدي ويرمي بوش بفردتي حذائه تباعاً وهو يصرخ: 'يا كلب، خذ قبلة الوداع'! فالصحافي الشاب لم يجد ما تستحقه تلك الأحجيات الوقحة سوى رمي قائلها بحذائه، وهو محقّ طبعاً بمعايير اللحظة التاريخية الراهنة، غير أنّ للمسألة وجهها الآخر الذي يجعل كلام المجرم بوش عادياً ومفهوماً وليس أحجية! مسلسل استعماري طويل
في الواقع، إنّ العراق لم يكن بخير ولا بوضع طبيعي قبل احتلاله، مثله مثل البلاد العربية جميعها، المجزّأة والمحاصرة والمسيطر عليها بصورة أو بأخرى من قبل الغرب الأطلسي، والتي تشكّل منذ حوالي قرن من الزمان مجالاً حيوياً لهذا الغرب الأطلسي الذي يعتبرها من ممتلكاته، سواء أكانت مستقرّة مستسلمة له أم متبرّمة متمرّدة عليه، ويعتبرها جزءاً لا يتجزّأ من العالم عموماً الذي هو عالمه، سواء أكانت سعيدة مرفّهة مثل الكويت وسنغافورة أم شقية معذّبة مثل العراق وأفغانستان، فرفاه هذا البلد وشقاء ذاك يتحقق بإرادة الغرب الأطلسي وعلى ضوء ما تقتضيه مصالحه، وهو عندما يرفّه الكويت البلد الصغير المسالم فإنّ ذلك يكون ضرورياً لكي يشقي العراق البلد الكبير المتمرّد، والمبدأ نفسه ينطبق على سنغافورة وإندونيسيا مثلاً! ليس الرئيس بوش سوى استمرار لتلك السلسلة الطويلة من الملوك والرؤساء الأوروبيين/ الأمريكيين الذين توالوا منذ أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر، والذين أخذوا على عاتقهم قيادة عمليات إخضاع العالم أجمع والهيمنة عليه، وفي مقدّمته البلاد العربية والإسلامية، وهي العمليات العنصرية التلمودية التي تبلورت جنيناً في العام 1241، قبل حوالي ثمانية قرون، بتأسيس 'اتحاد المدن التجارية' الأوروبية، تلك المدن/الدول التي كانت تعدّ بالمئات، من إنكلترا وفرنسا في أقصى الغرب الأوروبي إلى روسيا في أقصى الشرق وما بينهما، وقد حقّق ذلك الاتحاد أول انتصاراته العالمية بسقوط غرناطة واكتشاف أمريكاعام 1492، ليبدأ منذ ذلك التاريخ عصره العالمي، أما اليوم فإنّ حلف شمال الأطلسي هو شكله الحديث المعاصر! أي أنّ الرئيس بوش ليس الأول ولا الأخير، وحلف شمال الأطلسي ليس الأول ولا الأخير، لكنّ العصر الأوروبي/ الأمريكي واحد بعقيدته العنصرية التلمودية من بداياته وحتى نهاياته التي دخل فيها فعلاً! لقد تأسس حلف شمال الأطلسي، كآلة حرب أوروبية/أمريكية جبارة ، في العام 1949، في تلك اللحظة التاريخية التي اقتضت تحديث الآلة الحربية بسبب التحدّي العظيم الذي شكّله تمرّد الاتحاد السوفييتي والصين وخروجهما عن السيطرة إلى حدّ كبير، فكان على الحلف بتركيبته الجديدة المطوّرة احتواء التمرّد ولجمه على الأقلّ من جهة، والدفاع عن بقية مناطق العالم المؤهلة للتمرد بدورها من جهة أخرى، فالأوروبيون والأمريكيون يعتبرون العالم يخصّهم وحدهم، بصورته التي شكّلوها هم، وعندما يفكّر شعب ما بالاستقلال والحرية فإنهم يعتبرونه معتدياً عليهم ومهاجماً لهم، ويعتبرون أنفسهم في وضعية الدفاع، فيحتلون بلاده بجيوشهم ويصادرون إرادته بديمقراطيتهم، وهذا ما لخصه الرئيس بوش في حديثه في بغداد، والذي يصبح بناء على ما عرضناه مفهوماً وليس أحجية، وبالطبع فإنّ تفسير الأحجية لا يعفي بوش من تلقي حذاء الشاب العراقي الباسل كردّ على ما قاله، بل هو ردّ يستحقه جميع الملوك والرؤساء الأوروبيون والأمريكيون الذين توالوا منذ أواخر القرن الخامس عشر على الأقل، حيث جميعهم اعتنقوا العقيدة العنصرية التلمودية ذاتها!
أثمان باهظة
على مدى العقود الماضية أخذ حلف شمال الأطلسي على عاتقه مهمات 'دفاعية' كبرى في مختلف أنحاء العالم أدّت إلى دمار أممي شامل أودى بحياة مئات الملايين، ووضع أربعة أخماس البشرية في حالة خطر عظيم تتراوح بين الاحتضار والفاقة، ولعلّ أكثر مهماته نجاحاً هي تلك التي نفّذها في البلقان في العام 1995، والتي ما زال يحاول تكرارها في السودان مثلاً، غير أنّ عملياته تعثّرت في العراق عام 2003 في بداياتها، ثمّ راحت تتخبّط وتستنزفه ابتداء من العام 2004 وحتى يومنا هذا، بعد أن تحوّلت من حرب أيام كما قدّر لها إلى حرب سنوات لا تبدو نهايتها، وليس من ريب أنّ تعثّره وتخبطه ونزيفه في العراق وأفغانستان، وفي سياقها هزيمته المنكرة في لبنان عام 2006، هي في رأس الأسباب التي أدّت إلى الأزمة المالية العالمية الحالية التي انطلقت من الولاياتالمتحدة، حيث هذه الدولة هي لحمة الحلف الأطلسي وسداه، وأمام تطاول زمن المعارك العسكرية الباهظة التكاليف توجّه الأمريكيون، منذ عام 2005، إلى حلفائهم الأوروبيين يلحّون عليهم بتحمّل أعباء أكبر لحماية نظامهم الربوي العالمي المهدّد، ويدعونهم إلى المساهمة في تطوير المفهوم الاستراتيجي لحلف شمال الأطلسي، وبالفعل استجاب مؤتمر الدفاع الأوروبي، وبدأت الدول الأوروبية، ابتداء من العام 2005، في تحمّل مزيد من الأعباء من جهة وفي صياغة مفهوم استراتيجي متطور للحلف من جهة أخرى، وهو ما يستحق أن نفرد له مقالة خاصة به، غير أنّ ذلك كلّه لم يحقق حتى الآن تقدّماً حاسماً في ميادين القتال العراقية والأفغانية خاصة، على الرغم من تعاون خمس وعشرين دولة من أوروبا الشرقية والوسطى، وعلى الرغم من تعاون عدد من الدول العربية إضافة إلى القاعدة الإسرائيلية، فالآلة الحربية الأطلسية ما زالت تتعثر وتتخبط، وما زالت الحاجة الماسة إلى إعادة تأهيلها قائمة، إنّما كيف؟ لا جواب حاسم!
ارادة الشعوب ستنتصر
في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين والصومال والسودان تتأكد أكثر فأكثر نظرية الجنرال الفيتنامي جياب القائلة بإمكانية انتصار ما هو صغير على ما هو كبير، وما هو ضعيف على ما هو قوي، وما هو بسيط على ما هو معقّد، بفضل التفوق الروحي والسياسي العادل على المادي الجهنمي الظالم، وبفضل وحدة المظلومين وحسن استخدامهم لأدواتهم القتالية المتواضعة، من تلك الأنواع التي يصنّعها الفلسطينيون في ورشاتهم الحرفية البدائية، ناهيكم عن حسن استخدام منتظر الزيدي لحذائه الذي أثبت فعالية سياسية لا تدانيها فعالية جميع المؤسسات الرسمية العربية والدولية!