عندما تقترب الطائرة من أجواء المدينةالمنورة, تبصر تلك الصحراء الشاسعة الموحشة ذات الطبيعة القاسية, والجبال والهضاب والرمال الكثيفة, وتتساءل: كيف استطاع الرسول الأمين أن يقطع المسافة الطويلة بين مكةالمكرمة إلي مدينة الأنصار هو والصديق في رحلة الهجرة لإعلاء كلمة الإسلام. تختلج المشاعر والأحاسيس وانت تستنشق هواء يدخل إلي النفس والقلب السكينة والطمأنينة, ورغم مرور كل هذا الزمن, إلا أن الإجابة تدركها فور أن تطأ قدماك أرضا طيبة الطيبة. وإذا كانت رحلة العمر بالنسبة للمسلم هي الذهاب لأداء مناسك الحج, فإن البداية من المدينةالمنورة أشبه ما تكون بالاستئذان من الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه لكي تبدأ وأنت أكثر استعدادا لمشقة ركن أساسي من دعائم الدين الحنيف لمن استطاع إليه سبيلا. تغيرت بلا شك مظاهر الحياة والمباني, ولكن الاقتراب من المسجد النبوي الشريف يعيدك إلي صدر الإسلام وتتلاحق أمامك لقطات ومشاهد خالدة حين استقبل الأنصار بالفرحة والابتهاج محمد بن عبدالله, وكيف آخي الرسول بين المهاجرين والأنصار, وكيف أرسي في ذلك الوقت البعيد قواعد راسخة لأول مجتمع إسلامي يقوم علي المساواة الكاملة, لا فرق بين غني وفقير, وأبيض أو أسود, الجميع سواسية كأسنان المشط, والتقوي وحدها هي علامة التفضيل ومحلها القلب وليست بالمظاهر والسلوكيات التي قد تخدع الناظرين. المجتمع الإسلامي الأول الذي عرفته المدينةالمنورة قام بالتسامح والعطاء لوجه الله والتضحية والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والقدوة الصالحة. هذه المعاني تراها في أبناء طيبة الطيبة الذين يستقبلون حجاج بيت الله بالبشر والسرور والابتسامة الصافية, وكيف لا يفعلون ذلك وقد دعا لهم الرسول الأمين. الشوارع تعج بالآلاف القادمين من كل فج عميق, من كل أنحاء الدنيا من أقصاها لأقصاها, الشيخ الكبير مع الطفل الصغير, المرأة المسنة والفتاة الشابة, الجميع جاءوا للاستئذان والتشرف بالسلام علي نبي الرحمة والهدي محمد بن عبدالله. توسعات الحرم النبوي تشد الأنظار, والجهد المبذول واضح وجلي لراحة ضيوف الرحمن, وتعليق عميق تسمعه وأنت بين الجموع.. سبحان الله, هؤلاء جميعا ولا تجد زحاما خانقا في أي مكان, كأن الأرض بدورها ترحب بالزائرين وتفسح لهم المجال, وترتفع الدعوات الصادرة من القلوب المتعبة بهموم الحياة التي لا تختلف من مكان لآخر, من شرق آسيا إلي جنوب إفريقيا, ومن أوروبا والصين وباكستان والهند, وجوه ناظرة إلي المغفرة والتوبة قبل أن تبدأ رحلتها إلي مكةالمكرمة, وقد ارتدت ملابس الإحرام استعدادا لمناسك الحج.