علي الرغم من أن المفاوضات المباشرة الفلسطينية الإسرائيلية التي بدأت بمؤتمر واشنطن, ثم جولتين للمفاوضات في شرم الشيخ ثم القدس, هدفها التوصل إلي تسوية سياسية شاملة للقضية الفلسطينية, فإن قضية الاستيطان سيطرت علي أجواء المفاوضات وبدا من السجال الإعلامي أن الموقف من' تجميد الاستيطان' هو كلمة السر في مصير هذه المفاوضات, لاسيما بعد أن يحل موعد نهاية فترة التجميد في الثلاثين من سبتمبر الحالي حسب مصادر الحكومة الإسرائيلية التي بادرت بتصحيح التاريخ ليكون الثلاثين بدلا مما كان معروفا من قبل وهو السادس والعشرون من الشهر نفسه, فالجانب الفلسطيني يؤكد أن استئناف البناء في المستوطنات سيدفعه إلي مقاطعة المفاوضات, والحكومة الإسرائيلية تقطع بأن تمديد التجميد أمر غير وارد علي الإطلاق, وأن علي الفلسطينيين مواصلة المفاوضات بصرف النظر عما سيحدث في ملف الاستيطان, لأن هذا الموضوع لم يسبق أن كان مطروحا في أي مفاوضات سابقة. وبدا واضحا من السجال أن القضية تحولت إلي مسألة' كرامة وطنية' وباتت تمسك بمصداقية كل طرف, فالرئيس الفلسطيني محمود عباس لم يعد في حاجة إلي ملف جديد للتشكيك في توجهاته' الاستسلامية' والطعن في مواقفه ورؤيته, بل وربما عقيدته أيضا من جانب أنصار حماس والقوي المسايرة لها, ورئيس الحكومة الإسرائيلية في المقابل يتعرض لهجوم شرس من تيار الاستيطان الذي يعد الليكود أبا شرعيا له, كما أن عناصر عديدة داخل الحزب تتطلع إلي خلافة نتانياهو في رئاسة الليكود, ومن بينهم سيلفان شالوم, والجميع يستعد لمعركة الانقضاض علي نتانياهو إذا ما قرر تجديد تجميد الاستيطان. بدت ملامح المشهد وكأن الطرفين المعنيين قد علقا في هذه القضية تماما ولا أحد يستطيع التحرك, فالتراجع سيكون له ثمن داخلي كبير, وكل طرف بدأ يتهم الآخر بأنه يوظف ورقة الاستيطان من أجل إفشال المفاوضات, وأنه لو كان جادا لاتبع ما يشير عليه الطرف الآخر, فالجانب الفلسطيني لا يري مبررا لرفض حكومة نتانياهو تمديد التجميد لفترة معينة لاسيما أن للمفاوضات سقفا زمنيا هو عام ميلادي واحد, والجانب الإسرائيلي يعلن عدم اقتناعه بموقف أبو مازن الذي لم يتبعه عرفات شخصيا, فالأخير دخل كل جولات المفاوضات السابقة دون أن يكون وقف الاستيطان شرطا لمواصلة التفاوض. هنا كان علي الرعاة التدخل لمساعدة الطرفين علي تجاوز هذا المأزق, وتمت مراجعة كل سوابق المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وتحديدا مفاوضات كامب ديفيد الثانية التي جرت في الفترة من11 إلي25 يوليو من عام2000, والمبادئ التي طرحها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون كأسس للتسوية السياسية في23 ديسمبر عام2000, وأخيرا حصيلة مفاوضات الوفدين الفلسطيني برئاسة أحمد قريع والإسرائيلي برئاسة شلومو بن عامي في مدينة طابا المصرية في الفترة من21 إلي27 يناير من عام2001 قادت قراءة وثائق هذه المفاوضات إلي استنتاج محدد وهو أن هذه المفاوضات ناقشت قضية حدود الدولة الفلسطينية المستقلة, وأن هذه المفاوضات انتقلت من حديث عام بدأ في كامب ديفيد بمطالب إسرائيلية بضم نحو20% من الضفة الغربية إلي توافق مبدئي علي ضم نحو5,3% في سياق تبادل لم يتم الاتفاق علي أسسه ما بين مطلب فلسطيني أن يكون التبادل متساويا في المساحة وموازيا في القيمة, إلي مطلب إسرائيلي أن يكون المقابل أقل في المساحة والقيمة, تعويضا بأراض قبالة قطاع غزة, والممر الآمن بين الضفة والقطاع. وبدا واضحا أن العودة إلي الحديث عن هذه القضية فيه خروج من المأزق, فإعادة التفاوض علي مساحة الأرض التي سوف تضمها إسرائيل وتحديدها بدقة سيكون بمثابة المقدمة المنطقية لمعالجة موضوع الاستيطان وحل قضية التجميد حلا نهائيا, ففي حال الاتفاق علي حدود الدولة الفلسطينية ستدخل منطقة الكتل الاستيطانية الثلاث الكبري( محل التبادل) ضمن حدود إسرائيل, وهنا يكون لها الحق في مواصلة البناء في منطقة تقع داخل أراضيها, وتوقف الاستيطان في باقي أنحاء الضفة الغربية التي ستقام عليها الدولة الفلسطينية الوليدة, بل أن مواصلة الاتفاق علي قضايا أخري سيعني بدء تفكيك المستوطنات دون الكتل الثلاث, ونقل سكانها' المستوطنين' إلي داخل الخط الأخضر. من هنا جاء الاقتراح الذي تقدم به الرئيس مبارك إبان جولة شرح الشيخ في الرابع عشر من سبتمبر الحالي, حيث اقترح الرئيس مبارك أن تقوم الحكومة الإسرائيلية بتمديد تجميد الاستيطان لمدة تتراوح ما بين ثلاثة إلي أربعة أشهر, تستغل في مفاوضات مكثفة للاتفاق علي حدود الدولة الفلسطينية, في سياق حصيلة المفاوضات السابقة, وفي حال التوصل إلي اتفاق فسيتم تجاوز قضية الاستيطان نهائيا ولن يجري الحديث عنها بعد ذلك, أي أن هذا الاقتراح يتعامل مع معالجة موضوع حدود الدولة الفلسطينية باعتباره بوابة إنجاح المفاوضات الجارية والتغلب علي العقبات المثارة حاليا, ويبدو واضحا أن هذا الاقتراح سيكون بمثابة بالون الاختبار لنوايا طرفي المعادلة, فإذا كانت الحكومة الإسرائيلية جادة في توجهها نحو التسوية كما يقطع نتانياهو وتردد الإدارة الأمريكية فلتبادر بتمديد تجميد البناء في المستوكنات لمدة أربعة أشهر, وتشرع في مفاوضات حول حدود الدولة الفلسطينية, وإذا رفضت حكومة نتانياهو هذا الاقتراح فإن ذلك سيؤكد عدم جديتها وعدم رغبتها في إنجاح هذه المفاوضات وأنها ما جاءت إلي هذه المفاوضات إلا لتجنب غضب أمريكي ومساس كان متوقعا بطبيعة العلاقات مع واشنطن, ومن ثم نقولها بوضوح أن الاقتراح المصري بتمديد التجميد والتفاوض علي حدود الدولة الفلسطينية, سيكون بمثابة جهاز قياس مدي صدق توجه حكومة نتانياهو نحو التسوية واستجلاء مكنون القلب تجاه المفاوضات الجارية.