من السهل أن تكون الكاميرا ميراثك بالحياة، وتقتني فيها أفخم أنواعها إذا كان أحد مالكيها على قرابة منك، لكن الأصعب أن تتخذ من هذا الصندوق الأسود ذى العدسات مختلفة الأبعاد والأحجام، رفيقًا يلازمه الحركة، ينبض بما تشعره تجاه عمل إبداعي. معادلة صعبة لكن المصور الكبير طارق التلمساني نجح في حلها على مدار رحلة عمله التي امتدت على مدار عشرين عامًا أو أكثر. طارق التلمساني الذي ينتمي لواحدة من أهم العائلات التي عملت في صناعة السينما منذ القرن الماضي، فوالده هو مدير التصوير حسن التلمساني، أما عمه فهو كامل التلمساني، استطاع أن يقفز بكاميراته مبكرًا ليخلق لذاته أسلوبًا خاصًا في التصوير يعتمد فيه على رصد العمق النفسي للشخصيات، أي أنه جعل من الكاميرا حالة فاعلة ومتحدثة مع المشاهد وليس مجرد آلة تصور هذا المشهد أو ذاك، فالتصوير لديه ليس مجرد ميراث، بل موهبة حقيقية. للمصور الكبير حالة خاصة في أعماله يبتعد فيها عن التكلف والتفلسف الذي قد يلجأ إليه الكثيرون من أجل الحصول على شهرة أوسع عالميًا فالبساطة هي عنوانه الذي نجح فيه في رصد المشاعر والانفعالات الإنسانية لوجوه أبطالها مع منح مساحة متوازية لصورة المشهد كاملاً بما يحيطه من طبيعة أو ديكور. بحسب ما أكده نقيب المهن السينمائية ل "بوابة الأهرام"، فإن التلمساني يجلس حاليًا في منزل ابنته بعد خروجه من المستشفى التي مكث بها على مدار ما يقرب من عشرة أيام، منوهًا بأن فريقًا من أعضاء النقابة، هم مدير التصوير سامح سليم، عمر فاروق، وأيمن أبو المكارم لمتابعة حالته الصحية طيلة الأيام الماضية، ومؤكدًا أن النقابة خاطبت وزير الثقافة حلمي النمنم حتى يتمكن المبدعون من استكمال علاجه على نفقة الدولة، حيث من المقرر أن يجري جراحة عقب إصابته بجلطة في المخ، سواء كان ذلك داخل البلاد أو تطلب الأمر سفره إلى الخارج. وبالعودة لرحلة طارق التلمساني فإننا نتلمس ألحانًا متفردة قدمها بأعماله الفنية، لعل أشهرها فيلم "المواطن مصري" للنجمين عمر الشريف، وعزت العلايلي، هذا العمل الذي يمثل حالة ملحمية وإنسانية رصد بها التباين الواضح بين قوة أصحاب المال وسيطرته على الضعفاء والمهمشين، بكادرات كانت تحاكينا دومًا عن قصة العمل من خلال نظرات "العمدة" التي تحمل جبروت، و"عبد الموجود" المقهور المغلوب على أمره، ولعل الأميز هنا كان في تصوير التلمساني مشهد وفاة "مصري" ونظرة والده إليه التي تمتلئ بالدموع والصمت، وكلما تقترب الكاميرا منه يزداد المشاهد تفاعلاً وتأثرًا بالمشهد. ويستكمل المبدع رحلته المميزة على مدار مشواره الفني الثري بأعمال تعد محفورة في أذهان المشاهد بتصويرها القريب من الواقع، فيقدم لنا أفلام الطوق والأسورة، عرق البلح، راعي النساء، خرج ولم يعد، وغيرها من الأعمال التي حققت نجاحًا كبيرًا في سنوات الألفية الجديدة مثل الأولى في الغرام، حرب أطاليا، بالإضافة إلى الأعمال التي عمل بها مصورًا، أو ممثلاً يضفي بريقاً بكاريزمته التي تضعه في مصاف مجسدي الطبقات الأرستقراطية عن حق أصيل. ويكمل التلمساني مشواره الحيوي مع الكاميرا بالتحرر والتجدد الذي يبرزه بأعماله التي صاحب فيها الأجيال الجديدة من المخرجين، فلم يجعل نفسه تقع في دائرة مفرغة يقف فيها عند مراحل عمله مع العظماء من الجيل الراحل مثل صلاح أبو سيف، ولكنه طور من أسلوبه ليواكب لغة العصر بما يحمله من تكنولوجيا مبهرة في التصوير، مع الاحتفاظ بثوابته الأساسية في التصوير التي تتمثل في لغتها الفاعلة بينها وبين المشاهد. الحديث عن كادرات وحيوية التلمساني في التصوير لا ينتهي ويتطلب مزيدًا من السطور التي لن تفي المبدع حقه، لكن المؤكد أن المصور المبدع هو حالة فريدة وخاصة، تحمل البساطة وتخاطب الروح أولاً قبل العقل.