ليس بالأمر الكارثى أن تتراجع أجهزة الدولة، حكومة ومحافظين ومسئولين بدرجات مختلفة، عن القرارات التي لم تلق قبولًا لدى الشعب، وأن تتم إعادة صياغة قرارات أو وضع قوانين بديلة، قد تكون شابها بعض العيوب، أملا فى الاستجابة لآمال وطموحات هذا الشعب، لكن أن تتأسس غالبية القرارات على قواعد من العشوائية والتخبط فى أمور ربما تحكم مصير وطن بأكلمه فهنا تكمن الكارثة. ثبت بعد ثورة 25 يناير أن تجاهل وجهات نظر الآخرين لم يفد أحداً يوماً من الأيام، لكن القائمين على اتخاذ القرارات روجوا لفكرة" بلاش تستبقوا النتائج، فالأمور بخواتيمها".. غير أن صبر الشعب قد طال، وبدأت ردود الأفعال تظهر بوضوح أن الناس ينتابهم شىء من التشاؤم، ووصلت إلى مرحلة عدم الثقة فى أى قرار يتخذه صانع القرار أياً كانت صفته. قرارات بالجملة اتخذها صانعو القرار عقب الثورة وتم التراجع عنها بعد ساعات قليلة، منها ما كان يتعلق بأمور اقتصادية، وأخرى ما هو مرتبط بنواحٍ سياسية خطيرة، وأخرى تتعلق بمستقبل وطن بأكمله، وبدا منذ الوهلة الأولى أن متخذى هذه القرارات، قد وضعوها بعد دراسة غير وافية. والأمثلة على ذلك تتعدى أصابع اليدين، وليست يداً واحدة. منذ ساعات خرج أحد صناع القرار ليؤكد أن مباراة القمة بين فريقى الأهلى والزمالك قد تم تأجيلها إلى أجل غير مسمى، بسبب الأحداث التى وقعت بين متظاهرين ورجال الشرطة فى ميدان التحرير، ولم تمض ساعات حتى خرج صانع قرار آخر ليمحى ما قيل فى هذا الشأن، ويعلن عن إقامة المباراة فى موعدها المحدد مسبقاً ليسود الارتباك بين غالبية فئات الشعب. مجدى عبد الغنى، عضو مجلس إدارة اتحاد الكرة حاول تفسير هذا التخبط "رياضيا" لكنه فشل، وقال بالنص: "ماعنديش حاجة أقولها غير إن اللى حصل يضر بمصر، ويؤثر على سمعتنا فى الخارج، فما معنى أن تخاطبنا وزارة الداخلية بتأجيل المباراة ثم يعلم اتحاد الكرة بإقامتها فى موعدها من خلال التليفزيون وليس الوزارة؟. واكتفى بقوله: "فيه حاجة غلط وربنا يستر من اللى جاى". من التخبط الرياضى إلى الاقتصادى، حيث أعلنت الحكومة منذ أيام قليلة فرض ضريبة تصاعدية على الأرباح الرأسمالية بنسبة 10 %، وفور إعلان رجال الأعمال عن غضبهم من هذا القرار، وتهديدهم بسحب استثماراتهم فى البورصة، تراجعت الحكومة مرة أخرى عن فرض الضريبة، ليتم الإعلان عن انتصار "رجال الأعمال"، على قرار الحكومة. أن يصل التخبط فى القرارات والتصريحات إلى حد التكذيب من مسئول أقل إلى مسئول أكبر فالأمر ينذر بمستقبل أكثر غموضا، فمنذ أسابيع ذكرت وزارة المالية معلومات خطيرة بشأن الاحتياطي النقدي في مصر.. وقالت آنذاك إنه وصل إلى 9ر24 مليار دولار، وهو ما نفاه هشام رامز نائب محافظ البنك المركزي مؤكدا أن الاحتياطي النقدي وقتها 28 مليار دولار، وأن الجهة المنوط بها استصدار معلومات الاحتياطي تتمثل في البنك المركزي دون سواه وهنا بالطبع يقول لوزارة المالية: "بلاش تتدخلى فى حاجة مش من اختصاصك". من تفسير التخبط رياضياً، إلى محاولة الوصول لمخاطره اقتصادياً، أطلق الدكتور عصام درويش عضو المجالس القومية المتخصصة شعبة الدراسات المالية والاقتصادية تحذيراً خطيراً من أن عدم الشفافية في إصدار القرارات الاقتصادية والمصرفية وعدم توافر المعلومات الصحيحة، يضر بشدة بالجدارة الائتمانية للاقتصاد المصري ويقلل من وضع مصر الاقتصادي لدي مؤسسات التصنيف العالمية، وقال:"إحنا مش ناقصين.. كفاية اللى إحنا فيه ياحكومة". كان على الحكومة التأني والتريث قبل أن تقول إنها ستلجأ لصندوق النقد والبنك الدوليين لطلب قروض، بدلاً من أن تتخبط وزارة المالية وتعلن أنها استطاعت تخفيض عجز الموازنة، إلى 6ر8 % بدلا من 11 % من الناتج المحلي الإجمالي، وأنها ستقوم بتدبير تمويل هذا العجز عبر الاقتراض من الداخل وليس الخارج أو الهبات والمنح والمساعدات من شركاء التنمية، هكذا انتقد الدكتور درويش قرارات اقتصادية وصفها بالحساسة، تم اتخاذها بعشوائية ودون أدنى دراسة مسبقة، وقال: "ياريت المسئول اللى يتكلم يبقى عارف إن كلامه فى الفترة دى ممكن يحدد بيه مصير بلد بالكامل". على طريقة الرياضة والاقتصاد، انتقلت عدوى التخبط والعشوائية فى السياسة.. فمتى ستقام الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية؟.. لا أحد يعلم، وهل ستكون الانتخابات قبل الدستور، أم العكس؟. لا أحد يعلم أيضاً، رغم أن الإعلان الدستورى جاء فى إحدى مواده أنه سيتم إجراء الانتخابات أولا ثم إعداد دستور للبلاد. لكن يبدو أن هناك شيئا ما "خطأ" ويجب تداركه فوراً، على حد وصف اللواء الدكتور زكريا حسين، المدير الأسبق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا وأستاذ العلوم الإستراتيجية. سألنا اللواء زكريا: هل المجلس العسكرى والحكومة "بيطبطبوا على الشعب ومش عاوزين يزعلوه؟". فأجاب بالنفى، مبررا موقفه الرافض لذلك بأن الحكومة ليست لها رفاهية الدلع والطبطبة، وليست لديها الصلاحيات بأن تقوم بمثل هذا التدليع للشعب، لكن ما يحدث من تخبط فى القرارات حاليا، يعنى عدم القدرة على السيطرة على المواقف من جانب صانعى القرار. لا توجد خريطة واضحة أمام متخذى القرارات فى هذه الفترة الانتقالية يسيرون من خلالها، وهناك أكثر من جهة فى يدها إصدار القرار، فالوزير له صلاحية من جهة، ومجلس الوزراء له نفس الصلاحية من جهة أخرى، والمجلس العسكرى على قمة هؤلاء، والمشكلة تنحصر فى أنه يتم اتخاذ القرارات دون مراجعتها بدقة، وليس مفترضاً أن يتم الاعلان عن أى قرار قبل مراجعته بدقة تامة، هكذا يرى أستاذ العلوم الإستراتيجية. علي الجميع أن يعرف حدود صلاحياته، وكل طرف فى منظومة القرار عليه ألا يعلن عن أى قرار قبل عرضه على من يرأسه، لأن مايحدث حاليا شىء غير طبيعى، وكفاناً انقساماً وبلبلة بين كيانات الدولة، على حد وصف اللواء زكريا حسين.