السمع والطاعة المسمار الأبرز فى نعش التنظيم لم يكن الأمر صراعا على المعرفة والعلم والتقدم، بل كان صراعا على تسييد فكرة الطاعة بالجهل، واصطناع المشروعات الخدمية: مستوصفات طبية، ومستشفيات ومدارس، وحقائب طعام، لم يكن الأمر حتى دعوة للإسلام، وإنما كان الإسلام هو السفينة السهلة للسيطرة على الناس، فى حين كان اليسار كتيار يتعرض للزلزلة والانتقاص والهدم، وكان وهو ينهار فى نهاية الثمانينيات يدعو إلى العدالة الاجتماعية كمشروع دولة، كمشروع اجتماعى وليس كصدقة يقدمها أفراد لأفراد، ويدعو إلى الحرية والتقدم وعدم الخضوع للنظام الرأسمالى وقسوته، كان الإخوان الإرهابيون يدعون إلى عكس كل ذلك، وليس الأمر هنا مقارنة يمين ويسار، بل لأنه بضدها تتميز الأشياء، وللدلالة على أن التيار الإسلامى وقف عند لحظة تاريخية معينة لم يتجاوزها لأنه لا يستطيع تجاوزها جهلا، وليس قصدا وعمدا، كانت هذه إمكاناته الفكرية وأراد تطبيق هذه اللحظة على واقع متغير ومتطور، شىء أشبه بسرير بروكست، أى هندسة الواقع على حجم الفكرة، فإذا لم يستجب الواقع قصروا أطرافه ليستجيب. اليمين الرأسمالى احتاج إلى حاضنة اجتماعية، فخلقوا له اليمين الدينى عبر ما سمى بالصحوة الإسلامية التى سنظل ندفع ثمنها إلى أجل طويل. صحيح أن اليسار انهار أيضا ولم يصمد لأسباب أخرى تخص أيضا قبول فكرة الواقع المتغير، لأنه آمن بفكرة القيادة من الخلف، ولم يدر أن هذا الخلف احتلت رأسه الأفكار الخرافية والدين الطقوسى، والتدين الشعبى، أو التدين الخائر الجبان، بتعبير زكى نجيب محمود، التدين الذى يخاف من أى فكرة، ويرتعد أمام أية مبادرة علمية، وأمام كل اختراع جديد، أو تطور علمى، يذهبون جريا لمعرفة رأى الدين، وإذا حاججتهم بأن هذا إهانة للدين، وانتقاص من العلم، ردوا عليك بأن الإسلام دين العلم ولم يمنع أحدا من الابتكار والاختراع، وإذا سألتهم لماذا ليس من بين المخترعين عالم إسلامى، يردون عليك بأن علماء الإسلام هم من علموا الدنيا، ولدينا الفارابى والخوارزمى وابن سينا، و.. و... متجاهلين أن العلم مناخ اجتماعى، وأن التطور سياق عام، كان التجهيل ومعاداة كل فكر وفن وثقافة، أى الجهل المقدس بتعبير أوليفييه روا، هو النمط السائد، انهار اليسار إذن، ولم ينتصر الإسلام، بل انتصر مجموعة من دعاة الإسلام، انتصروا النصر الذى حفر قبرهم، نصر السيطرة على الشارع فى الانتخابات والاستفتاءات نصر الوصول إلى كرسى الحكم، خالطين التاريخ بالسياسة، والتاريخ انتهى وثابت فى الكتب، والسياسة متغيرة ومتحولة ودوارة، فكان لابد أن ينهاروا هم أيضا. وبعد الانهيار، هل يوجد لهؤلاء القوم: «الإخوان» وأشباههم مستقبل فى مصر؟ هذا السؤال الكبير، يحاول الإجابة عنه د. محمد شومان، أستاذ الإعلام بجامعة عين شمس، والعميد المؤسس لكلية الإعلام بالجامعة البريطانية، فى كتابه «مستقبل الإخوان فى مصر»، الصادر فى 180 صفحة من القطع الصغير، عن دار المعارف بمصر، وشومان قبل ذلك، وليس بعده، له دراسات أخرى مهمة فى محاولة فهم العقلية الإسلاموية مثل: مصر وإسلاميوها بعد ثورة 25 يناير (مشارك دبى)، وإشكاليات الفكر الإسلامى المعاصر، وفضلا عن ذلك هو ذو باع فى علوم تحليل الخطاب الإعلامى، والبحوث الكيفية، والاتصال الجماهيرى، ما يجعله مؤهلا تأهيلا علميا لفهم آليات الخطاب الإسلامى والأقدر على فضحه وكشفه وإظهار عواره. وقد قسم د. شومان كتابه إلى مقدمة وخاتمة وبينهما أربعة فصول سابحا فيها كلها بين مقدمات تاريخية، وسياقات اجتماعية وأسباب أخرى أدت إلى هذا الانهيار المدوى للجماعة الإرهابية المسلمين، وهى التى ظنت أنها ستحكم فى مصر والعالم العربى لمدة خمسمائة عام، غرتها كثرتها، على أن المفارقة الفكرية التى يرصدها د. محمد شومان، وهى أن الجمود الفكرى وقوة التنظيم القائمة على السمع والطاعة، كل ذلك كان سببا فى استمرار الجماعة الإرهابية كل هذا الزمن، هذه السمة «الجمود الفكرى»، هى المسمار الأبرز فى تفكك الجماعة الإرهابية بعد ذلك، بالإضافة طبعا إلى أسباب أخرى رصدها شومان، فى الفصل الثالث، وجاء أغلبها متعلقا بنفسية هذا التنظيم الإرهابى بعد النجاح فى انتخابات الرئاسة مثل: رغبة أو طموح كثير من عناصر الإرهابية للحصول على المكاسب بعد سنوات من المطاردة والهجرة إلى دول الخليج، وربما يفسر هذا الطموح كما يقول د. شومان: جموح وتسرع الإخوان الإرهابيون للهيمنة على المناصب القيادية التى تتحكم فى مفاصل الدولة. اشتعال الصراعات الداخلية والتنافس الحاد والمدمر بين قيادات وأفراد الجماعة الإرهابية على توزيع المكاسب والغنائم من مناصب فى مؤسسات الدولة والمزايا المادية والمعنوية، ويلتقط شومان لمحة نفسية سريعة تتعلق باشتعال هذا الصراع، وهى شعور الجماعة الإرهابية بغياب التحدى، ومناخ المحنة بحسب تعبيرات الجماعة. ارتباطا بهذا السياق، يفسر محمد شومان تحول الرأى العام الذى كان الحاضنة الاجتماعية والسياسية والرافعة القوية للإرهابية، تحول الرأى العام إلى النقيض، بل تحول إلى رفض وكراهية وعداء بعد وصول الإرهابية للحكم، يقول محمد شومان: وقد يبدو هذا التحول لغير المتخصصين فى دراسات الرأى العام غريبا وسريعا، لكنه تحول منطقى تماما ومفهوم لأسباب كثيرة أهمها أن الرأى العام فى كل المجتمعات عاطفى وانفعالى ومتقلب، لاسيما فى مراحل الثورات والأزمات، وقد نجح هؤلاء الإرهابيون فى التلاعب به وخداعه من خلال ادعاء الحديث باسم الدين، وخلط الدين بالسياسة، ولعب دور الضحية المضطهدة تاريخيا قبل وبعد ثورة يوليو 1952م، وفى هذا السياق قدموا سرديات مبالغا فيها، وكتبوا كثيرا عن المظالم التى تعرضوا لها، وعما قدموه من تضحيات. وهناك أيضا نقطة غاية فى الأهمية يرصدها شومان وهى تحالفات الجماعة الإرهابية بعد 25 يناير، وكلها تحالفات مضرة بالأمن القومى المصرى، فكما دخلوا فى تحالفات مع الاستعمار قبل ثورة 23 يوليو، انتهوا إلى تفاهمات مع الإدارة الأمريكية بعد يناير 2011، وحتى أثناء حكم محمد مرسى، ثم دخلوا فى تحالفات مع قوى إقليمية (قطر - تركيا) لا تقدر دور مصر الإقليمى وتسعى إلى تهميش هذا الدور، هنا اكتشف الرأى العام المصرى، كما اكتشفت كل القوى السياسية المتعاطفة مع هذه الجماعة الإرهابية، وكذلك اكتشف المحيط العربى، كذب وادعاء هذه الجماعة، وأنها مجموعة من القادة الأنانيين تقود قطيعا أعمى، وكان أن انفجرت الجماعة من الداخل بين أكثر من تيار، يرصدها محمد شومان، فى هذا الفصل الثالث، الذى هو أطول فصول الكتاب وأهمها علميا وموضوعيا لفهم ما جرى لهذه الجماعة، وما هو مستقبلها وأبرز هذه التيارات هو ما دار بين فريقين الأول يضم عناصر من جيل الوسط وشباب الجماعة مدعوما ببعض إخوان الخارج، والتيار الثانى يتكون من القيادة وأنصارها داخل السجون وخارج مصر، ومعظم هذا الفريق من كبار السن الذين يهيمون على مصادر التمويل والدعم الخارجى للجماعة، وهناك إفاضة فى هذا السياق ترصد مظاهر هذا الانقسام الداخلى، حتى أن التيار الأول أسس جماعة إرهابية جديدة يقودها على بطيخ المقيم فى تركيا، لكننا نريد أن نقفز فى ضوء ذلك، لنتعرف مع د. شومان على مستقبل هذه الجماعة فى مصر، وهل لها مستقبل من الأساس؟ وهذا ما نجد الإجابة عنه فى النصف الثانى من الفصل الثالث، ويحدد محمد شومان سيناريوهات هذا المستقبل، وهل يمكن أن تكون هذه الجماعة الإرهابية مؤثرة فى ظل حالة الشتات التى تعيشها، ويتحدد هذا المستقبل كالتالى: انقسام الكيان التنظيمى للجماعة الإرهابية إلى تنظيمين أو جماعتين متنافستين تتصارعان على المشروعية، ويعتبر هذا السيناريو امتدادا على نحو ما للانقسام التنظيمى الثنائى القائم منذ سنوات وهذا السيناريو سوف يشجع كثيرا من أعضاء الجماعة الإرهابية والمتعاطفين على الخروج الفردى أو الانسحاب الجماعى واعتزال العمل الدعوى والسياسى تجنبا للرفض الشعبى والمطاردات الأمنية. السيناريو الثانى: انهيار الجماعة الإرهابية بشكل فوضوى مما يؤدى إلى اختفاء أى امتداد مؤثر لها على المستويين الدعوى أو السياسى، وهذا سيناريو يعتمد على نجاح المشروعات التنموية التى يقودها الرئيس السيسى، ومن ثم إحداث نقلة نوعية فى مستويات حياة غالبية المصريين، تترافق معها نهضة تعليمية وثقافية، ثم وهو الأهم نجاح دعوة الرئيس السيسى المتعلقة بتجديد الخطاب الدينى وفى حال نجاح هذا السيناريو سيترتب عليه: انسحاب أغلب أعضاء الجماعة وأنصارها من العمل العام والحياة كمواطنين عاديين إذا لم يكونوا قد ارتكبوا جرائم فى حق المجتمع والدولة. ظهور جماعات عدة، أو تنظيمات صغيرة لفترة من الزمن لن تستمر طويلا، وقد تتصارع فيما بينها. ربما تظهر جماعة أو أكثر تمارس العنف والإرهاب. ظهور أفراد وجماعات صغيرة غير مؤثرة تعيد تفسير وتأويل وتوظيف أفكار حسن البنا. السيناريو الثالث: سيناريو البقاء والاستمرار الرمزى غير الفعال فى حال نجح الحرس القديم فى حل الصراعات الداخلية أو الوصول إلى تفاهمات مع الدولة للعمل بشروط الدولة المصرية. السيناريو الرابع: انقسام وتشظى الجماعة إلى عدد من الجماعات المتصارعة. وعلى أى حال سواء تحققت هذه السيناريوهات أو بعضها، مع أن د. محمد شومان يرجح سيناريو اختفاء الجماعة، فإنه يجب على الدولة المصرية العمل على عدم عودة هذه الأفكار مرة أخرى، وعدم ظهور مثل هذه الجماعات والعمل على إزالة أثر هذه الجماعة، وذلك بمواجهة هذه الإيديولوجية، وذلك ما يقف عنده طويلا د.شومان فى الفصل الرابع والأخير من هذا الكتاب صغير الحجم، كبير القيمة، وكان الفصلان الأول والثانى قد رصدا أسباب فشل محمد مرسى فى حكم مصر، ثم فشل الجماعة فى التأثير على الرأى العام المصرى بعد ثورة 30 يونيو 2013، وذلك لقصور رؤيتهم للإعلام والدعاية، وهى رؤية قاصرة وأنانية.