منذ اللحظة الأولى لانتشار جائحة كورونا أيقن الطبيب الشاب الدكتور محمود سامي إخصائي أمراض الباطنة والحميات، الذي لم يكمل بعد عامه الأربعين، أنه حان وقت الكفاح والحرب الحقيقيين بعد أن تسبب هذا الفيروس في حالة من الرعب والفزع لدى الجميع، اتخذ قراره بالتطوع ضمن الصفوف الأولى لجيش مصر الأبيض رغم إصابته بمرض مناعي، الأمر الذي أخفاه عن أساتذته وزملائه بمديرية الصحة بكفر الشيخ، موقنًا أنه قد حان وقت الصبر وعدم الاستسلام وأنَّ عمله يتطلب وجوده كطبيب في أمراض الباطنة والحميات، وهو التخصص الذي يلعب دورًا مهمًّا وحيويًّا في فهم هذا المرض ومشكلاته وعلاجه. د. محمود سامي قاوم أسرته التي حاولت أن تمنعه بشتى الطرق من التطوع لمعرفتهم بمرضه المناعي، لكنه راوغهم وأخفى عنهم أمر تطوعه، وأنها رغبته الشخصية، وقال لهم إننى مجبر على ذلك ولابد أن أذهب وأؤدي عملي وواجبي، وذهب إلى مكان عمله بمستشفى عزل بلطيم يوم 2 من مايو الماضي حاملًا حقيبته، ومودعا زوجته التي أنجبت طفلهما بعد أحد عشر عامًا من زواجهما ومولوده يحيى بعد أسبوعين فقط من ولادته. ليست دراما سينمائية أسمعه وكأنني أمام فيلم سينمائي، يصنع لنا مشاهد حقيقية تظل عالقة في أذهاننا، وتلامس قلوبنا وتدفعنا إلى البكاء.. فحكاية الدكتور محمود سامي لا تتوقف فقط عند مستشفى العزل أو عند نقطة فقدان بصره، إنما عند بطل يحمل الكثير من الشجاعة والإيثار والموهبة والأمل والنخوة والرجولة. ولد الدكتور محمود سامي يوم 6 من أكتوبر 1981، ولكنه سُجِّلَ في الأول من شهر نوفمبر، كانت لديه مشكلات صحية منذ لحظة الميلاد، وظن الأهل أنه لن يكمل الحياة، وتشاء الأقدار أن يعيش ليكبر ويتعلم ويحصل على الابتدائية والإعدادية من إحدى المدارس بمركز الرياض بمحافظة كفر الشيخ، ويصبح من العشرة الأوائل في الثانوية العامة، ليلتحق بكلية الطب، ويصبح أول طبيب في قريته يتخرج في كلية طب قصر العيني، ويظل عشر سنوات يتعلم الطب ويعمل بالقاهرة ويحصل على سنة الامتياز، وينهي دراسته في عام 2007. ولا يتصور د. محمود سامي ابن كفر الشيخ أنه أصبح طبيبًا، بل تسلَّمَ أول تكليف له بالشيخ زويد بشمال سيناء، ثم نُقِلَ إلى كفر الشيخ ليصبح إخصائي أمراض الباطنة والحميات بمستشفى الحميات هناك، ثم انتدب إلى مدينة بيلا بالقرب من كفر الشيخ ومنها إلى مستشفى العزل ببلطيم. بلطيم ومستشفى العزل يقول د. محمود سامي: ذهبت إلى مستشفى العزل متطوعًا ولست مجبرًا لمدة أسبوعين من 2 إلى 16 من مايو الماضي ومعي فريق من الزملاء الأطباء والتمريض، وكنا 15 فردا قسمنا أنفسنا على المستشفى واستكشفنا أماكننا وتناوبنا، وكنا وقتها في شهر رمضان نرتدي البذل الواقية الثقيلة، ونتابع الحالات عن كثب وبمنتهى الهمة والحماسة، كنا نتعامل مع المرضى بصبر وجَلَد وكنا نهدئهم قدر الإمكان. كنا في معسكر مغلق، ظهر الوضع في بداية الأمر طبيعيا وهادئا لكن بمجرد انتشار الڨيروس بالقاهرة اكتظت المستشفى بأعداد كبيرة من المصابين. كنت أنا وزملائي نتخذ الإجراءات الاحترازية ونطبقها على أنفسنا قبل المرضى، كان بداخلنا خوف مثلهم تمامًا، لكننا كنا نقاوم ونُظْهِر الشجاعة من أجل سلامتهم وطمأنتهم. مرضي المناعي وواجبي كنت أسأل نفسي لماذا ذهبت رغم مرضي؟ ولماذا أُعَرِّض نفسي للخطر؟ لكني شعرت بواجبي نحو الوطن، فالجندي من يحمل السلاح ويحارب الأعداء، وشعرت بعَدُوِّي الخفي الذي يجب أن أحاربه من أجل أن يحيا ابني وأبي وزوجتي وعائلتي الكبيرة، ذهبت لأني أحب وطني. ظهور المرض أصبت به في عام 2006 بعد وفاة أمي ثم وفاة عمي الذي كان مثلي الأعلى، ومازال المرض يصاحبني ويسبب لي طفحًا جلديًّا وآلاما في العضل، وهو مرض مزمن. واقعة الإصابة في يوم إصابتي فوجئت بأعداد كبيرة من المرضي يفوق عددهم الأربعين مريضًا مصابون بالڨيروس، وحالاتهم صعبة، استمررت في عملي من الفجر إلى العصر وأنا صائم، لم أذق طعم النوم أو الطعام وزملائي كانوا في راحتهم، وكان من واجبي أن أخفف عن المرضى وأن أكون لهم الطبيب النفسي والطبيب المعالج لهم، وكنت صامدًا لإنقاذهم وتقديم الدعم والمساندة لهم، وكنت في حاجة ماسة في هذا الوقت إلى المساندة، استمررت معهم، وأتذكر سيدة حاملا أمسكت بيدي وقالت لا تتركني أموت، وقلت لها أنا معك لن أتركك وستكونين بخير. فأعداد المرضى كانت كبيرة ولا أستطيع الذهاب إلى السكن كي أستعين بأحد من زملائي لأنه يتطلب أن أخلع البذلة، وأتعقم من جديد، معنى ذلك أنني سأضيع ساعة قد تكون إنقاذًا لهؤلاء المرضى، وتحاملت على نفسي إلى ما قبل الإفطار بساعة، لا أعرف كيف خرجت من مكان العزل وكيف مشيت إلى مكان سكني بالدور الثالث؟ وبدأت أشعر بالاختناق وضيق بالنفس، وقلت لنفسي سأنام وأرتاح وسأكون بخير، لكني لم أتمكن من النوم وزادت عليَّ الأعراض وشعرت كأنني أغرق، وكنت أعلم أني أُصبت بالڨيروس، فهذه مرحلة الارتشاح الرئوي، وقفت بجانب النافذة كي أشم الهواء وأستطيع التنفس جيدًا، شعرت وقتها بأني أريد أن أقفز من النافذة حتى تنتهي هذه الأعراض التي أشعر بها، لكني لجأت إلى أحد زملائي وقلت له:إني أموت من الألم، وإنني أصبت بڨيروس كورونا لكنه حضنني دون أن يخشى على نفسه مني، وذهب زملائي إلى مدير المستشفي وقتها فكل الأجهزة ملوثة بالڨيروس، لم يكن في الحسبان أننا كفريق طبي سنحظى بالإصابة به أيضًا، وأجرينا الأشعة على الرئة واكتشف زملائي أن عندي مشكلة، ورجعوا إلى ملفي الطبي ليكتشفوا أني مصاب بمرض مناعي وأنه كان يجب ألا أعرِّض نفسي لخطر العمل في مستشفي العزل، وشن زملائي وقتها هجومًا على الدكتور مدحت مدير إدارة الحميات بكفر الشيخ، الذي قال لهم إنه لا يعلم شيئًا عن مرضي، فاضطر أن يبرئ ذمته بنشر محادثة بيني وبينه على ال(واتس آب). نخوة الرجال ويستطرد د. محمود سامي قائلًا: ظل زملائي في حالة ذهول مما فعلته، لكنهم كانوا فخورين أنني قمت بهذا العمل الوطني، ارتفع ضغطي إلى 210/170، وكان الضغط على المخ وفقدت الوعي ونُقلت بأعجوبة إلى العناية المركزة بمستشفى الصدر بكفر الشيخ، لأنه كان لا يوجد أي أماكن في أقسام الرعاية بالمستشفيات في هذه الفترة. واستعانوا بجهاز ضغط من عيادة أحد الأصدقاء خارج بلطيم، واضطروا إلى خفض الضغط الذي وصل إلى أدنى مستوياته مما سبب لي جلطات متعددة بالجسم، واستمررت 16 ساعة في الغيبوبة، وزملائي كانوا يحاولون تهدئتي ويقولون لي أنت بخير، لكن بعد الإفاقة من الغيبوبة فوجئت بناس كثيرين يقولون لي حمدا لله على السلامة، لكني لم أتمكن من رؤيتهم فالظلام الدامس يملأ الغرفة، تصورت أن هناك انقطاعا فى الكهرباء أو أني في حلم طويل، قلت لهم أنا (مش شايفكم) ظن الأطباء أني أصبت بصدمة، لكن الحقيقة أن الضغط المرتفع دمر لي العصب البصري تمامًا، ومن القاهرة إلى الإسكندرية وخارج مصر أكشف عند أساتذتي الذين قالوا لي إن العلم يتقدم وربما خلال السنوات القادمة يظهر شيء يعيد إليَّ بصري الذي فقدته وأنا أؤدي واجبي المهني والإنساني. الرئيس الإنسان كان هناك اهتمام كبير بحالتي بعد اهتمام الرئيس عبدالفتاح السيسي بي، والذي أمر بعلاجي على نفقة الدولة والعلاج بالمركز الطبي العالمي بعد أن اتصل بي مكتبه وتابعوا حالتي، وفي العيد العام الماضي أرسل إليَّ الرئيس الورد والشوكولاتة وهدايا عينية ومالية أيضًا، وأبلغوني تعاطفه وتأثره بما حدث لي وأن مصر لا تنسى أبناءها أبدًا في كل المجالات. وقبل تكريمي أخيرًا اتصل بي مكتب الرئيس السيسي مرة أخرى وأخبروني بأن الرئيس يود تكريمي رغم أني كنت محبطًا وقتها، لكن جاء هذا الخبر ليثلج صدري ويقوي من عزيمتي وإرادتي مرة أخرى. لقد قابلت الرئيس بقلبي وببصيرتي، همس في أذني قائلًا: فخور بك ومصر لن تقع طالما فيها رجال مثلك، قلت له: ربنا يقويك على مشكلات مصر، وقال لي: لقد وجهت المسئولين لتحقيق كل مطالبك بما يليق بشجاعتك. وقبل لقاء الرئيس استقبلتني الدكتورة هالة زايد وزيرة الصحة وقالت لي إن الرئيس وجه لك بمخصصات وتم تعيينك مديرًا عاما بإدارة المشاركة بوزارة الصحة ومتحدثًا رسميًا لمجلس صندوق شهداء كورونا، لا أخفي عليكِ سرًا كنت في غاية الفرحة، وعلمت وقتها أن من قلب المحنة منحة. أصدقائي في أوروبا عادت لي مرة أخرى بسمة الحياة التي لا أراها ولكني أحسها تمامًا، وسأستلم رسميًّا مهام عملي بالوزارة خلال هذا الأسبوع، سأعمل على حل مشكلات زملائي الأطباء وأطقم التمريض. زملائي الأطباء في أوروبا، وفي ألمانيا تحديدًا، تواصلوا معي وقالوا لي إنهم سيرسلون إليَّ نظارة تقرأ بمجرد توجيهها على الكتابة يمكنها قراءة أي شيء، وسيتم إرسالها عن طريق قنصل مصر بألمانيا. المنصب الجديد ويضيف د. محمود سامي: أنا مستعد طوال الوقت لأي شيء ولأي عمل، سأتعلم طريقة برايل، ولن يقف أمامي أي عائق سوى الموت. سأدرب نفسي أن أرى بقلبي وروحي الأشياء، وأنا على يقين بمساندة ربنا لي. أشعر ببعض الرهبة والخوف، لكن لديَّ الحماسة والرغبة، أنا موجود أريد أن أستعيد حياتي وأرجع إلى الحياة بقوة. نصفي الحلو وعن شريكة حياته، يقول: أنا متزوج من مروة ابنة خالتي منذ 11 عامًا، جمعتني بها قصة حب، وهي من أفضل المنح التي رزقني الله بها بالرغم من أني ولد وحيد ولي شقيقتين، وبسبب تأخر حملها طلبت مني كما طلبت الأسرة أن أتزوج كي أنجب أطفالًا، لكني رفضت ذلك وقلت لها سأظل معك حتي وإن لم أُرْزَق منكِ بالأطفال، وقلت لها: الله سيرزقنا معًا، كنت على يقين من كرم الله معنا، وفي يوم اتصلت بي وقالت: عندك أعصاب كفاية.. امسك نفسك، فُزِعْت وظننت أن هناك أمرًا جللا حدث، لكنها أخبرتني بأنها أجرت اختبارًا للحمل وأنها حامل، ورزقنا الله بعد شوق بابني يحيى، وهناك تجاذب وانسجام بيني وبينه رغم فقدان بصري. دخلت الطب عن قصد كان عمي ناظر مدرسة وعلاَّمة وعبقريا، تزوج ابنة عمه وكانت تكبره بعشر سنوات، وعندما أنجبت أول مرة كانت فتاه لديها إعاقة ذهنية، توفيت عندما كان عمرها 15 عامًا، وعندما أنجب للمرة الثانية كانت فتاة جميلة اسمها نجلاء كانت في البداية صحتها جيدة لكن مع الوقت ظهر عليها المرض الوراثي والشلل وكانت تكبرني بثلاث سنوات، كنت وقتها طالبًا فى المرحلة الإعدادية وكانت هي في المرحلة الثانوية، وكنت يدها التي تكتب بها في الامتحانات، كانت تذاكر وتقرأ لي وتشرح وأنا أكتب لها، وأذاكر لنفسي ثم أذاكر كتبها بعد ذلك، وتمكنت من النجاح في الثانوية العامة وقبل التحاقها بالجامعة توفيت، تمنيت أن أكون طبيبًا لأعالج هذه الحالات، رحيلها جعلني في حالة عدم اتزان ومن أجلها التحقت بكلية الطب.