الأمر لا يمكن السكوت عنه في ظل اكتظاظ أروقة المحاكم المصرية بالمئات من قضايا إثبات النسب، فرغم أن العالم كله أصبح يحسم قضايا إثبات النسب أو نفيه عبر تحليلات البصمة الوراثية التي تعطي نتائج يقينية، فإن قانون الأحوال الشخصية في مصر مازال ينظر بريبة إلى تلك التحليلات، وجرى العرف في محاكمنا على«الاستئناس» بتحليل «دي.إن.إيه» دون اعتباره دليلا معتبرا يحسم الكثير من قضايا إثبات النسب، والتى تشهد ارتفاعا ملحوظا فى السنوات الأخيرة، ولأن هذه النوعية من القضايا قد تستمر منظورة لسنوات طويلة أمام القضاء مما يجعلها سببا فى ضياع حقوق الأطفال وربما تنتهى بعدم الاعتراف بهم وتأييد ذلك بحكم المحكمة، فالقانون الخاص بها يحمل العديد من الثغرات التى تسهل للجانى الهروب وعدم اعترافه بولده مثل عدم اعتراف القضاة بتحليل البصمة الوراثية باعتباره دليلا قاطعا وليس قرينة. وكذلك يزيد الأمر تعقيدا غياب نص في القانون المصري يلزم المتنازعين بإجراء تحليل الحمض النووي للأب، الذي يعده الخبراء دليلا جازما تصل نسبته إلى 99.9 % في حسم هذه القضايا، فلا تجري هذه الفحوصات إلا إذا وافق الأب على إجرائها لكن المحكمة لا تلزمه بإجراء تلك التحاليل. وهذه المأساة تتكرر أيضا فى حالات طلب الآباء نفى النسب، فالزوج نفسه يفاجأ بأنه مجبر على أن يكون أبا لأطفال ليسوا من صلبه، بناء على تحليل البصمة الوراثية، ومع ذلك ترفض المحكمة الاعتراف بنتيجة التحليل وتطبق قاعدة «الولد للفراش»، والمحاكم المصرية شهدت العديد من هذه القضايا مثل قضية «على» الذى شعر بوعكة صحية وأجرى فحوصا طبية ليتبين له بعدها أنه لا ينجب فلجأ إلى المحكمة لإنكار نسب أطفاله الثلاثة إليه، وأيضا تناولت وسائل الإعلام أخيرا قضية الفنانة هالة صدقى وزوجها، وتظل قضايا أحمد الفيشاوى وهند الحناوى وأحمد عز وزينة الأشهر فى قضايا إثبات النسب. نتائج شبه يقينية وترى الدكتورة دينا شكرى أستاذ الطب الشرعى بكلية الطب جامعة القاهرة ورئيس الرابطة العربية للطب الشرعى وعضو اللجنة الاستشارية للطب الشرعى بالمحكمة الجنائية الدولية بلاهاى،أن هناك نقطتين تحكمان هذا الموضوع الأولى: الموقف العلمى وهو عن مدى حقيقة أن تحليل البصمة الوراثية يثبت البنوة من عدمها، وهنا أؤكد أن هناك نتائج بحوث تكاد تكون يقينية تثبت قدرته على ذلك إذا تمت بالطريقة الصحيحة لأن هناك بعض الأشياء فى الفحص إذا تمت بطريقة غير صحيحة تُفقد التحليل مصداقيته، كسوء الطريقة التى تم بها سحب العينة وشكل الجهاز المستخدم لأن فحص البصمة الوراثية لا يستخدم لفحص البنوة فحسب، ولكن يستخدم أيضا فى الاستعراض بصورة عامة مثل التعرف إلى المتهم فى حالة حوادث الاعتداءات أو التعرف إلى الجثث المجهولة وغيرها، لذلك لابد من اتباع طريقة سليمة من الناحية التقنية والعلمية عند إجراء التحليل حتى نستطيع أن نأخذ بهذه النتيجة ونقول إنها نتيجة معتمدة ومعتبرة 100 % وهذا موجود فى مصر لأن إجراء البصمة الوراثية يكون إما بطلب من المحكمة ويتم فى المعامل الطبية التابعة لمصلحة الطب الشرعى فى وزارة العدل، أو يكون بطلب من مواطنين يريدون الاطمئنان على نسب أبنائهم وهنا يتجهون إلى المستشفيات التى يتوافر فيها هذا الفحص وهى جهات خاصة أو حكومية تقوم بالفحص خارج الإطار القانونى أى لا تقوم بالفحص بسبب قضية إثبات نسب. مواقع چينية وتضيف د.دينا شكري: ولكن معمل تحليل البصمة الوراثية التابع لمصلحة الطب الشرعى معتمد دوليا وعليه فهو معتبر والإجراءات التى تتم من خلاله سليمة، والأجهزة المستخدمة معتمدة . أما الجزء الثانى المهم فى عملية التحليل فهو عدد المواقع الچينية التى يتم الكشف عنها الموجودة فى العينة التى يتم فحصها، بمعنى أنه إما أن تكون المقارنة فى مواقع چينية كثيرة وهنا تكون نتيجة هذا التحليل يقينية بصورة أكبر مع بعض الالتزام بالمعايير الأكاديمية والعلمية، وقد تكون المقارنات لمواقع چينية قليلة، ونحن فى مصر نستخدم المقارنة الأكبر وهى التى تثبت التطابق بطريقة يقينية. وتتابع: والنقطة الثانية التى تحكم الموضوع وهي الشق القانونى، فلكى نعتمد أي إجراء لابد أن يكون له موقع فى القانون بوجود مادة تنص على اعتبار فحص البصمة الوراثية إذا ما تم وفق خطوات علمية صحيحة، فحصا يقينيا واعتبار نتيجته دليلا دامغا يمكن الأخذ به فى المحاكم، وهذا للأسف لا يطبق فى مصر، لكنهم فى الخارج لا يعتمدون على جهة واحدة ولكن على عدة جهات منها حكومية وخاصة ويكون معيار المحاكم فى اعتماد النتيجة هو إدماج الأماكن التى يتم بها التحليل فى القانون حيث وضعت فى مادة من مواد القانون بعض الأماكن التى تجرى تحليل البصمة الوراثية والتى لديها معايير بصورة معينة. وكل التحاليل التى تجرى بها تعتمدها المحكمة كدليل قاطع، وللأسف فى مصر لا يوجد لدينا قانون يحدد جهة معينة وتعتمد نتيجة تحليل البصمة الوراثية الذى تجريه كدليل دامغ فى المحكمة، لأن لدينا كل الآراء بما فيها التقارير الطبية الشرعية سواء لفحص حالة اعتداء أو لإجراء صفة تشريحية أو لمعامل كيميائية كلها عبارة عن آراء خبرة والتقارير الناتجة عنها تعتبر تقرير خبير، ومع ذلك فالمحكمة تنظر إليه كتقرير فنى تستأنس به فحسب بمعنى أنه يساعدها فى التوصل إلى قرار أو حكم، لكنها غير ملزمة قانونا للأخذ به، لأن المحكمة لديها صورة أوسع بمعنى أننا فى واقعة ما سواء إثبات النسب أو غيرها نحن نقول الرأى من الناحية العلمية فقط لكن هناك آراء أخرى مثل الرأى الشرعى وهو فى حالة إنكار أو إثبات النسب: «الابن للفراش»، والتحريات والتحقيقات وأيضا يدخل فيها أكثر من دليل وقرينة، أي أن هناك أكثر من جهة تشكل رؤية القاضى فى النهاية، ويجمع كل ذلك فى قضايا إثبات النسب مثلا ويرى هل يمكن اعتباره الأب أم لا وفقا للقانون ومواده الملزمة. وتوضح الدكتورة دينا أن معامل الطب الشرعى بها كل الإمكانات العلمية بدليل أنها حاصلة على الاعتماد الدولى ونتائجها قاطعة، ولكن المشكلة كما تقول فى ارتفاع تكلفة إجراء تحليل البصمة الوراثية فهى حاليا تزيد على العشرين ألف جنيه لكى تتم على الثلاث عينات وهى الأب والأم والطفل وتطالب بأن تكون الأدلة العلمية الدامغة التى ثبتت بصورة يقينية أن تدرج ضمن الأشياء التى تعتد بها المحكمة كأدلة قاطعة ودامغة. وهناك نقطة أخرى أن القانون لا يجبر الشخص على إجراء التحليل وهناك قضايا رفض الزوج فيها إجراء التحليل وتطالب بأن يفسر ذلك ضده فى القانون وكأنها نتيجة إيجابية للتحليل وكل ذلك لابد أن يعالجه المشرع فى أقرب وقت. نظرة المجتمع وتقول د. سلوى جميل الحاصلة على الدكتوراه في القانون الجنائي بجامعة عين شمس: قضايا إثبات النسب من أصعب قضايا الأحوال الشخصية التي تواجه المحامي، وغالبا ما تكون ناتجة عن زواج عرفي وأول ما تواجهه المدعية هو نظرة المجتمع والمحاكمة المصحوبة بالتشكيك في سلوكها، وأهم عناصر إثبات النسب في القانون بشكل أساسي هو إقرار الزوج أو الرجل بأن الولد ولده وحتى في هذه الحالة تتحرى المحكمة منتهى الدقة وتطلب العديد من الدلائل الأخرى المساندة مثل شهادة الشهود، كأن يتم سماع الشهود الموقعين على عقد الزواج العرفي.. ونرجو أن يتم إدخال التطور العلمي الطبي في هذا المضمار.. مع تخفيض التكلفة المادية. علما بأن أحد أسباب الزواج العرفي وما يترتب عليه من إشكالية إثبات نسب الطفل الناتج عنه هو الزواج المبكر حيث لا تتوافر قسيمة زواج رسمية من الأساس، والقانون يرفض إثبات حالات الزواج لمن هم أقل من 18 عاما، ويصبح الأمر متروكا لضمير الزوج إذا أراد العقد على زوجته رسميا بعد بلوغها ثمانية عشر عاما أو تركها وهرب لتلقي مصيرها. وفي بعض القرى تتم كتابة اسم الطفل على اسم الجد والد الأب..لذلك نعود ونكرر ونطالب بوضع قانون يعالج مشكلة الزواج المبكر بكل جوانبها خصوصا الأسرية ونتمنى أن يحدث تعديل تشريعي يأخذ بالأسباب العلمية الحديثة ومنها تحليل البصمة الوراثية، وفي حالة رفض الرجل إجراء هذا التحليل يعد قرينة ضده ولصالح المدعية. حالات خاصة ويضيف المستشار عبدالله الباجا قائلا: النسب طبقا للمادة 15 ق 100 لسنة 1985 يثبت بالفراش وهو الزواج الرسمى، والبينة فى حالة الزواج العرفى أن يقر الأب بالنسب ولا يثبت النسب فى حالة الزنا لأنه ناتج عن علاقة غير شرعية، وتحليل البصمة الوراثية يقوم مقام الشهود فى حالة الزواج العرفى فلابد من علاقة شرعية لاستخدامه، وجرى القضاء، فى حالة إنكار الأب ورفضه عمل التحليل، على اعتبار ذلك إقرارا ضمنيا بالنسب، والمفروض أن تتم معالجة ذلك القصور فى القانون الجديد ولا يوجد استخدام تحليل البصمة الوراثية فى نفى النسب ويتم نفى النسب فى عدة حالات معروفة، منها ألا يكون حدث دخول بعد عقد القران أو أن تلد المرأة قبل ستة أشهر من الدخول أو أن تلد بعد سنة من تاريخ الطلاق أو وفاة الزوج وأخيرا فى حالة الملاعنة، ولابد أن تتم معالجة ذلك القصور فى القانون الجديد، وأن يعالج المشرع ذلك الخلل، خصوصا مع التقدم العلمى الذى أصبح يعطى نتائج يقينية فى حالة عمل تحليل البصمة الوراثية.