أحمد عبدالمعطي حجازي في هذه المقالة التى أختتم بها ما قدمته في الأسابيع الماضية عن الإسلام في أوروبا وعما نظمه الشعراء وكتبه المفكرون والمؤرخون الغربيون في النبي وسيرته وفي الإسلام وحضارته - في هذه المقالة الختامية أتحدث عن نابليون بونابرت وعن اهتمامه بالإسلام وكيف رآه وكيف تحدث عنه. ومن الطبيعى وحتى من البديهى، أن يكون الإسلام قضية من القضايا التى شغلت نابليون بونابرت. لأن الإسلام غيّر العالم فى العصر الذى ظهر فيه. قوض إمبراطوريات، وامتلك نصف الدنيا، وبنى حضارة شامخة. ولأن نابليون بونابرت ولد فى عصر تغير فيه العالم من أقصاه إلى أقصاه. وكان واحدًا ممن نقلوا العالم من عصر إلى عصر جديد. وقد جمع نابليون بين العبقريتين. فهو فى الحرب قائد لا يعرف الهزيمة، وفارس لا يشق له غبار. وهو فى السلم حاكم مشرع لايكتفى بتنفيذ القوانين بل يضعها لتحتل مكانها إلى جانب الشرائع الموروثة وتعدلها وتطورها. وقد فتح نابليون بونابرت عينيه ليرى الإسلام، ويعرف له قدره ومكانه في حياة البشر، وبالتحديد في حياة الشعوب المحيطة بمسقط رأسه، وهو جزيرة كورسيكا إحدى جزر البحر المتوسط، وهي الآن جزء من فرنسا، لكن تاريخها حافل بالتحولات. في القرن الثاني قبل الميلاد كانت كورسيكا رومانية. ثم استولى عليها الوندال الذين سميت الأندلس باسمهم في القرن الخامس الميلادي. ثم استولى عليها العرب المسلمون في القرن التاسع. ثم ظلت تنتقل من يد إلى يد حتى أصبحت في العام الذي سبق مولد نابليون فرنسية. هو ولد في عام 1769 والجزيرة صارت فرنسية فى العام 1768، بهذا التاريخ نفهم ما قاله عنه روبيرسوليه في كتابه «علماء بونابرت في مصر». قال: «إنه كان يحلم بالمشرق منذ طفولته الغضة، وكان يفكر مليًا بأن المرء يستطيع في مصر أن ينجز أعمالًا كبرى. ونجد أنه عندما ناهز الحادية والعشرين من عمره كتب قصة شرقية قصيرة سماها «قناع النبي». هذه القصة ربما لا تتميز بقيمة أدبية تذكر، لكنها مع ذلك تزخر بالمعاني الكثيرة. حيث تسرد واقعة ثورة شعبية ضد الخليفة. ونحن نرى هنا أن نابليون جمع فى قصته هذه بين تاريخ العرب وتاريخ الفرنسيين، لأنه كتبها في العام الذي اشتعلت فيه الثورة الفرنسية، وجعل التاريخ العربى مسرحًا لأحداثها. ولعله أراد في هذه القصة أن يقول إن النظام السياسي الذي ثار عليه الفرنسيون في نهايات القرن الثامن عشر لا يختلف كثيرًا عن النظم الإسلامية التي ظهرت في العصور الوسطى. في هذه النظم كان الخليفة حاكمًا سياسيًا وإمامًا دينيا في وقت واحد، وفي النظام الملكي الفرنسي كان الملك يحكم بتفويض من الله، فهو حاكم وكاهن ينفرد بالسلطة ويملي على الأمة إرادته، ولهذا ثار عليه الفرنسيون كما ثار المسلمون على الخليفة. لكن الإسلام بالنسبة لنابليون بونابرت لم يكن مجرد تاريخ مضى، وإنما كان واقعًا راهنًا، وكان سؤالًا مطروحًا في ذلك العصر الذي خرج فيه الأوروبيون والبشر جميعًا من عالم العصور الوسطى واندفعوا في طريقهم لبناء عصر جديد كان صراعًا محتدمًا في كل المجالات بين القديم والجديد. بين الملوك الطغاة والأمم المطالبة بالديمقراطية. بين الدول التي كانت تتصارع على الحدود الفاصلة بينها وعلى الأراضي التابعة لكل منها. بين الكاثوليك والبروتستانت. بين التيارات العقلانية المتحررة وبين الحكام ورجال الدين. وفس الوقت الذي كانت فيه أوروبا الغربية تتأهب لاحتلال بلاد المغرب ومصر وغيرها من البلاد الإسلامية، كانت أوروبا الشرقية تتأهب للثورة على الأتراك المسلمين الذين كانوا يحتلونها. وفى الوقت الذي كانت فيه بعض الأصوات في أوروبا تدعو إلى استئناف الحروب الصليبية كانت هناك أصوات أخرى تدافع عن الإسلام، وتتحدث عن الرسول بإعجاب وإجلال. ومن الطبيعي أن يكون الشرق كله والشرق العربي بوجه خاص حاضرًا في خيال الأوروبيين وفي كتاباتهم. مونتسكيو في «رسائل فارسية». وشاتو بريان فى «رحلة من باريس إلى بيت المقدس». وجيرار دونرفال فى «رحلة إلى الشرق». أما نابليون فكان يتهيأ ليدخل مصر فاتحًا كما دخلها الإسكندر، وبالأسلوب الذي اتبعه الإسكندر في دخولها. الإسكندر تتلمذ على يد أرسطو، وعرف ما كان لابد أن يعرفه عن مصر التي كانت في ذلك الوقت - القرن الرابع قبل الميلاد - ولاية فارسية. وقد استسلم الوالي الفارسي للفاتح المقدوني الذي قدم نفسه للمصريين بوصفه ابنًا للإله آمون، وتوجه إلى معبد آمون في واحة سيوة ليؤكد انتسابه له ويصبح مؤهلًا بعد ذلك ليجلسه كهنة آمون في منف على عرش الفراعنة. وقد سار نابليون في هذا الطريق خطوة خطوة. كان قد قرأ القرآن في ترجمة فرنسية، وعرف الكثير عن حضارة مصر، كما عرف الكثير عن تاريخ الإسلام. وقد قدم نفسه للمصريين في المنشور الأول الذي خاطبهم فيه بصفته واحدًا منهم يتكلم لغتهم ويؤمن بما يؤمنون به. يقول فى هذا المنشور: «يا أيها المصريون قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم. فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين. وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى، وأحترم نبيه والقرآن العظيم». ثم ترتفع نبرته فيعلن «أن الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون. وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا فى رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائمًا يحث النصارى على محاربة الإسلام».! ولاشك في أن كلام نابليون في مصر عن الإسلام كان سياسة أراد بها أن يتودد إلى المصريين ويمنعهم من مقاومته. لكن المصريين لم ينخدعوا وقاوموا الفرنسيين وثاروا ضدهم واضطروهم إلى الرحيل. ومع هذا لم يغير نابليون نظرته إلى الإسلام. كما شهد بذلك الذين تحدثوا عنه. كان يهاجم فولتير؛ لأنه لم يكن وفيًا للتاريخ في الصورة التي رسمها للرسول في مسرحيته «محمد». وكان يتذكر مصر فيقول «إن الوقت الذى قضاه فيها كان أجمل أوقات حياته».