محافظ الإسماعيلية يشارك في المقابلات الشخصية لبرنامج "المرأة تقود للتنفيذيات" (صور)    محافظ البنك المركزي يترأس وفد مصر في الاجتماعات السنوية لمجموعة بنك التنمية الإفريقي في أبيدجان    مفاوضات النووي الإيراني، طهران تتمسك بحق التخصيب وترامب يحذر نتنياهو    بنيامين نتنياهو: لا وجود لمجاعة في قطاع غزة    ليلة التتويج، حكام مباريات الأربعاء في الجولة الأخيرة بالدوري المصري    مدير أعمال طارق حامد يكشف حقيقة مفاوضات الزمالك    محامي نوال الدجوي يكشف تفاصيل آخر مقابلة مع الحفيد الراحل وسبب عدم تقسيم الميراث    أخبار الفن اليوم.. رد غير متوقع من ياسمين صبري على سؤال العمل مجددا مع محمد رمضان.. وزينة تكشف عن ضغوط للتنازل عن محضر نجلها    بالصور.. تامر حسني وأبطال فيلم "ريستارت" يحتفلون بالعرض الخاص في السعودية    لتقديم خدمات الأورام.. التأمين الصحي الشامل توقع تعاقدًا مع مركز "جوستاف روسي"    اختيار "ولاد الشمس" و"وتقابل حبيب" أفضل دراما قصيرة وطويلة في حفل جوائز قمة الإبداع    مفتي الجمهورية يدين اقتحام مستوطنين ومسؤولين في الكيان المحتل للمسجد الأقصى المبارك    سفارة أذربيجان تحتفل بالذكرى ال 107 لعيد الاستقلال    ماريسكا: التتويج بدوري المؤتمر الأوروبي سيكون إنجازًا تاريخيًا    توقيع بروتوكول تعاون بين وزارة الأوقاف والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية    ابحث عن ناد جديد.. ديلي ميل: أموريم يطرد جارناتشو أمام زملائه في مانشستر يونايتد    حواء على طريق الريادة| خلية نحل بالأكاديمية الوطنية لإنجاز برنامج «المرأة تقود للتنفيذيات»    «الأرصاد» تكشف تفاصيل حالة الطقس المتوقعة غدًا الأربعاء    رئيس الوزراء يشهد احتفالية تطوير مدينة غرناطة بمصر الجديدة.. بعد قليل    الرئيس اللبناني: دعم الإمارات يجسد عمق العلاقة الأخوية    مسؤول إسرائيلي: تصاعد الإنفاق العسكري على حرب غزة يهدد التعليم والصحة    زاهي حواس: أفحمت جو روجان ودافعت عن الحضارة المصرية بكل قوة    من الكويت إلى دبا.. مصعب السالم يعيد صياغة يونسكو بلغة معاصرة    هل يأثم من ترك صيام يوم عرفة؟.. أمين الفتوى يحسم الجدل    فتاة تسأل.. هل أصارح خطيبي بمرضي؟.. أمين الفتوى يجيب    أمانة الإعلام بحزب الجبهة الوطنية: حرية تداول المعلومات حق المواطن    حالة الطقس غدا الأربعاء 28-5-2025 في محافظة الفيوم    بسبب تراكم الديون... شخص ينهي حياته بعد مروره بأزمة نفسية بالفيوم    غضب لاعبي الزمالك بسبب نقل مفاجئ لتدريبات الفريق (خاص)    أسهم شركات "الصلب" و"الأدوية" تتصدر مكاسب البورصة المصرية وتراجع قطاع الاستثمار    «متى تبدأ؟».. امتحانات الفصل الدراسي الثاني للشهادة الاعدادية 2025 بالمنيا (جدول)    «حيازة مخدرات».. المشدد 6 سنوات ل عامل وابنه في المنيا    رئيس اتحاد النحالين يكشف حقيقة فيديو العسل المغشوش: غير دقيق ويضرب الصناعة الوطنية    ب"فستان جريء"..هدى الإتربي تنشر صورًا جديدة من مشاركتها في مهرجان كان    بيان عاجل بشأن العامل صاحب فيديو التعنيف من مسؤول عمل سعودي    السعودية تعلن غدًا أول أيام شهر ذي الحجة.. وعيد الأضحى الجمعة 6 يونيو    بعد دخوله غرفة العمليات..تامر عاشور يعتذر عن حفلاته خلال الفترة المقبلة    نائب رئيس جامعة بنها تتفقد امتحانات الفصل الدراسي الثاني بكلية التربية الرياضية    «الإفتاء» تكشف عن آخر موعد لقص الشعر والأظافر ل«المُضحي»    وكيل صحة البحيرة يتفقد العمل بوحدة صحة الأسرة بالجرادات بأبو حمص    6 أدعية مستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة.. أيام لا تُعوض    غياب ثلاثي الأهلي وبيراميدز.. قائمة منتخب المغرب لفترة التوقف الدولي المقبلة    تشابي ألونسو يسعى لخطف "جوهرة باريس"    ميار شريف تخسر منافسات الزوجي وتودع رولان جاروس من الدور الأول    ذكرى ميلاد فاتن حمامة فى كاريكاتير اليوم السابع    «حنفي»: المنطقة العربية تملك فرصًا كبيرة لتكون مركزًا لوجستيًا عالميًا    نشاط للرياح وارتفاع أمواج البحر على سواحل البحر المتوسط بالإسكندرية.. فيديو    الإدارة العامة للمرور تبدأ تجربة «الرادار الروبوت» المتحرك لضبط المخالفات على الطرق السريعة    الداخلية تكشف تفاصيل فيديو مشاجرة بورسعيد    قراءة فى نصوص اتفاقية مكافحة الأوبئة    قرار جمهوري بإنشاء جامعة القاهرة الأهلية    «الداخلية»: ضبط شخصين استوقفا أوتوبيسًا وطلبا أموالًا من السائق وتعديا على الركاب (فيديو)    تؤكد قوة الاقتصاد الوطني، تفاصيل تقرير برلماني عن العلاوة الدورية    حادث ليفربول.. رئيس البلدية يعلن تسجيل 4 إصابات حرجة    رئيس أركان حرب القوات المسلحة يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الإيطالية.. شاهد    الزمالك يتفق مع مدرب دجلة السابق على تدريب الكرة النسائية    وزير الكهرباء يستقبل وزير التجارة الخارجية والتعاون الدولي بالسويد لبحث سبل التعاون    في إطار التعاون الثنائي وتعزيز الأمن الصحي الإقليمي.. «الصحة»: اختتام أعمال قافلتين طبيتين بجيبوتي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بونابرت ومصر: غزو متبادل..
الحملة على المحروسة هى أحد المكونات الرئيسية لملحمة القائد الفرنسى
نشر في الأهرام اليومي يوم 03 - 05 - 2019

* عندما قال نابليون: «أوروبا لم تعد تمنحنى مجدا.. يجب الاتجاه شرقا»
* أبقى اتجاه الحملة سرا على أعضائها حتى أبحرت السفن
* كيف رد الجبرتى على دعاوى دخوله الإسلام؟
* الحملة نشرت الولع بمصر بشكل لم يسبق له مثيل حتى صار اليوم مادة مستقلة تدرس فى الجامعات

فى متحف جلاوكو لومباردى العريق بمدينة پارما بشمال إيطاليا والمخصص لتراث نابليون والدوقة ماريا لويزا زوجته الثانية، ألقى الكاتب الكبير محمد سلماوى محاضرة بعنوان «بونابرت ومصر: غزو متبادل» استعرض فيها التأثير المتبادل لفرنسا ومصر على بعضهما البعض، ومركزا على أبعاد التأثير المصرى على فرنسا فى الفن والشعر والمعمار والموضة، والذى يعرف باسم «الولع بمصر»، وقال: «وإذا كان غزو فرنسا لمصر لم يدم إلا ثلاث سنوات (1798-1801)، فإن غزو مصر لفرنسا مستمر حتى يومنا هذا»، وقد حضر المحاضرة جمهور غفير كان على رأسهم فيديريكو بيتزاروتى عمدة پارما وماريا تيريزا دى بوربون سليلة عائلة بوربون الملكية التى حكمت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا قبل عصر الجمهوريات.
......................................................................
تمثل الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 أحد أهم المكونات البطولية التى صنعت ملحمة بونابارت، كما تمثل إحدى الصفحات المؤثرة فى تاريخ مصر. ٌوقد شكلت الحملة قدرا هائلا من المكتبة التاريخية فى فرنسا نظرا للمكانة المتميزة التى يحتلها نابليون فى الذاكرة الجمعية للفرنسيين، وبشغفهم بالحلم المرتبط بالشرق، بالإضافة للوجود القوى لمصر فيه المخيلة الاوروبية.
ومنذ البداية، ارتبط التاريخ العلمى للحملة بتاريخها العسكرى، وعلى الرغم من ذلك فان طبيعة الصدمة الثقافية على الجانبين الفرنسى والمصرى قلما خضعت للبحث أو للتحليل. صحيح ان القيمة العظيمة العابرة للأزمان والتى يمثلها كتاب «وصف مصر» والذى كان من أبرز نتائج الحملة، حققت قدرا من التعويض عن الهزيمة السياسية و العسكرية التى منيت بها الحملة، لكنها فى ذات الوقت حجبت جزئيا الكثير من الحقائق على أرض الواقع.
ففى التاريخ الاوروبى عادة ما تعتبر الحملة على مصر استمرارا لتاريخ الولع بالشرق والذى ميز القرن التاسع عشر.
أن مجمل الحملة على مصر يسلط الضوء على احد اهم فصول حياة الامبراطور الذى كان يعتبر ان كل شىء ممكن، وكان يتبع خطى الاسكندر الأكبر وصولا الى الهند بهدف قطع الطريق على إنجلترا.
اما فيما يخص الجوانب الثقافية فقد تم اختزالها فى حكايات غير مترابطة، بينما لا يمكن ان تتضح قيمتها الا فى سياق مجمل. هذه الجوانب تم أيضا اختزالها فى تفسيرات مرهونة بمستقبل مصر فى القرن التاسع عشر، ومرهونة بالفكرة السائدة بنقل المعرفة فى اتجاه واحد من أوروبا ذات المعرفة التقنية الواسعة الى الشرق.
والحقيقة اننا امام صدام حضارتين، ولم يكن باستطاعة نابليون،وهو القارئ النهم للفلسفة والرحالة ان يهرب من هذا الانجذاب نحو الشرق، وسوف يستمر دوما و أبدا يحلم بالشرق.
من الثابت أن نابليون قرأ فى شبابه «تاريخ العرب» لمارينى كما انه حاول ان يكتب رواية قصيرة باللغة العربية، وفى عام 1792 فى كورسيكا، قابل بونابارت فولنى الذى كان يكن له اعجابا شديدا. كما انه كان يقابل بشكل دورى الاميرال تروجيه الذى تفاوض مع ماجالون على افتتاح طريق السويس فى 1785.
كل هذا كان يثير خيال الضابط الشاب الذى أفصح لوالدته وأخيه عن نيته السفر إلى الهند. وفى العام التالى أخذ يقابل بانتظام ديزيريه كلارى التى كانت عائلاتها مرتبطة بتجارة فى بلاد الشام. وفى خريف عام 1795 بينما كان بلا عمل منذ سقوط روبزبيير عين بونابرت قائدا للبعثة العسكرية التى كانت متجهة إلى القسطنطينية، ونجح فى الخامس من أكتوبر أن ينقذ الجمهورية بالقضاء على مظاهرة مؤيدة للملكية، فتمت مكافأته وصار قائدا على جيش ايطاليا الضعيف. واستطاع فى خلال عامين فقط النهوض به عسكريا ومعنويا وقاده من انتصار إلى آخر حتى معاهدة سلام كامبو فورميو مع النمسا، فأوجد لنفسه موضع قدم فى الجزء الشرقى من البحر المتوسط باحتلال الجزر الايونية التى تمتد قبالة السواحل اليونانية، وفى 16 أغسطس 1797 كتب «ليس ببعيد إن يأتى اليوم الذى سنشعر فيه انه من أجل القضاء فعليا على إنجلترا يجب الاستيلاء على مصر».
وهكذا تأكد وضع بونابرت كبطل موجود بجيش يكن له كل الولاء. وفى اليوم التالى لوصوله الى باريس فى الخامس من ديسمبر قابل تاليران الذى كان يراسله بشأن مصر، وظل على علاقة به، و فى الثانى عشر من يناير قدم خطة لغزو انجلترا كان وزير الحرب قد ألح عليه فى طلبها منه، لكنه فى آخر الشهر قال لسكرتيره بوريين:»لم يعد لدى مجد هنا، فأوروبا الصغيرة هذه لا تمنح مجدا كافيا. يجب التوجه الى الشرق».
كانت الحملة فى بادئ الأمر عسكرية بالطبع. اعتمد نابليون على جنود مدربة فأصبح جيشه بجنوده ال 36 الفا جيشا لا مثيل له فقد كان اربع مرات اكبر من الجيش الذى تم إرساله لمساعدة المتمردين الأمريكيين قبل عشرين عاما، و كان معظم الجنود من أتباعه من جيش إيطاليا الذى قاده فى انتصارات غير متوقعة فى عامى 1796 و 1797، وقد حدد بنفسه احتياجات التسليح وأعداد المدافع و الهاون والبنادق و الذخيرة وما لا يقل عن 4 ملايين خرطوشة، ومثل هذه التعبئة، وهو ما يتعدى كثيرا الاحتياجات العادية لأى جيش.. لكن إلى جانب الناحية العسكرية فإن خصوصية هذه الحملة تنبع من كونها تتضمن عددا هائلا من العلماء و المهندسين و الفنانين، مع المستشرقين و عمال المطابع، وقد شكل هؤلاء لجنة العلوم و الفنون، فقد قدم نابليون بنفسه قائمة من ستين كتابا علميا وأدبيا كونت نواة مكتبة تغطى كل فروع المعرفة.
وقد استعد جوفروا سان هيلير للسفر و كان يشغل منصب استاذ كرسى علم الحيوان ذلك رغم أنه لم يكن قد سافر أبدا من قبل، و قد قبل السفر مستندا على اسم بونابرت وأقوال اخ كبير، حيث كتب يوم 18 مارس:»سوف تقوم بعثة من العلماء و الرسامين برحلة استكشافية طويله. و لم يبلغنا احد بجهتنا، و لكنى وافقت مستندا على ثقتى فى الكولونيل بيرتوليه و هو العضو الوحيد فى اللجنة الذى يعلم جهتنا».
وقد حاولت الوزارة بالفعل إعطاء معلومات مضللة فنشرت يوم 3 ابريل لقيادة جيش إنجلترا أمر التحرك الى مدينة بريست الساحلية، كما قامت الوزارة بإعطاء اوامر السفر إلى مدن فليسنج، وبريست، وبوردو او ليون.وقد تسبب ذلك فى حالة من الارتباك المقصود قبل أن تصدر اوامر نهائية بتحديد موعد فى تولون او روما. و قد حظى كونتيه بمقابلة شخصية مع بونابرت من أجل تحضير مغادرة الاسطول الذى ينتظر اوامره، فأبلغه الجنرال بونابرت بأنهم سوف يبحرون من تولون، ورغم كل هذه الجهود اصبح هدف الرحلة سرا مكشوفا.. على متن المركب الذى يحمل اسم أوريان (الشرق)كتب بونابرت الرسالة البيان الذى سوف يوجهه الى المصريين. و من أجل ان ينصت اليه المصريون بشكل افضل، فقد اتبع نصائح فانتير دى بارادى و الذى قام بترجمة الرسالة. فهو لم يتقدم الى مصر باعتباره غازيا و لكن كمحرر باسم الله و بصفته عدوا للمماليك و كصديق للإسلام و للسلطان. وهو ينتظر ان يحصل على مقابل لذلك، فالقرى الصديقة عليها أن ترفع علم الجمهورية بجانب راية الرب، أما القرى التى ستحاول المقاومة فسوف تحرق».
ولكن الصدمة كانت كبيرة عند الوصول الى القاهرة، وقد وصف القائد العام يوير الذى كان ينظر الى ما حوله بكثبر من العدوانية، القاهرة فى خطاب موجه الى عائلته قائلا: «انها تشبه امعاء الحيوانات، حيث البيوت كثيرة تتراكم فوق بعضها البعض، دون نظام، ودون تنسيق او نهج، هؤلاء الرعاع يشبهون من يسكنون الاسكندرية ليس لديهم معرفة، انها قمة الجهل».
من هذه الفوضى ينبعث احساس قوى بالضخامة. كل واحد يعطى تقديره لحجم السكان: أربعمائة الف؟ ستمائة الف؟ هل هى اكبر مدينة فى العالم؟ و لكن لا، فمائتان و خمسون الف نسمة ما كان تعداد القاهرة، أى نصف تعداد باريس و اكثر من ضعف سكان المدن الكبرى فى الاقاليم الفرنسية، لكن كل شيء كان يتنافس من أجل ان تصبح العاصمة المصرية متاهة حقيقية امام الفرنسيين. و يرجع ذلك الى ان تركيبتها الاجتماعية المنغلقة و المعقدة لا تنفتح من الوهلة الاولى امام الاجانب.
ومستندا على نموذج النيل القوى و الخير، يشيد بونابرت مرة اخرى بمعجزة فيضان النيل فى رسالة موجهة إلى ديوان الحكم عام 1799: «رغبتى هى ان تبلغوا شعب القاهرة هدفى و هو تحقيق الرخاء و السعادة مثلما يفعل النيل لمصر، هذا النهر الأغنى والأخصب على وجه الارض».
منذ العصور الفرعونية، تعد مصر هبة النيل. و يشهد على ذلك الريف اكثر من المدن، من الدلتا حتى اعماق النوبة و أيضا فى الوادى هذا الشريط الاخضر الضيق الذى يمتد بطول النهر و يحيا به الملايين فى القرى. النيل هو المصدر الرئيسى للثروة الزراعية و التجارية للبلد وهو الشريان الحيوى للحياة، و لكن حول الوادى على بعد عدة كيلومترات أو أمتار، تسود الصحراء. هناك نمطان للحياة يتعايشان معا على مساحة من الاف الكيلومترات و يتقابلان فى منظومة من التبادل. و يكون هذا التبادل هادئا أحيانا، عنيفا أحيانا كثيرة و دائما غير متكافئ لصالح الصحراء.
بعد مرور ستة أشهر، كانت الملصقات المعلقة على جدران الأسواق تصنع حالة من المزايدة ووفقا لتصريحات رسمية من الديوان، فإن نابليون يجل الرسول ويحترم القرآن ويقرأ بعضا منه بخشوع كل يوم كل هذا بفضل بركة النبى، أشرف الخلق.
علمنا أن بونابرت لديه مشروع بناء جامع فريد من نوعه، كما ينتوى الدخول فى دين محمد، رسول الله».
هل حقا هذا الذى أطلق على نفسه «صديق المسلمين» كان ينتوى الدخول فى الإسلام؟ كيف يمكن تصديق ذلك؟
«هؤلاء القوم ينكرون كل شىء ويكذبون القول فى كل ما ينطقون به»، كما قال الجبرتى، أكبر مؤرخى العصر. إذ وفقا لمنهج التفسير الذى يعرفه طلاب الأزهر ذوو التكوين الإسلامى، سعى المؤرخ أن يقوم بتحليل محتوى هذا البيان. وفضلا عن الأخطاء النحوية العديدة وركاكة الأسلوب، رصد على وجه الخصوص النفاق والغباء والتناقض الصارخ بين الأقوال والأفعال، كما ندد بما احتوت عليه الكلمات من مادية إلحادية. حيث أن فرط جنون»! التجرؤ على كتابة «إنى أحترم الله أكثر من المماليك» تعد علامة على «خلل عقلى» لقد بدأت حملة بونابرت حقبة جديدة من التقدم والتطور فى مصر، كما نشرت تأثير مصر القديمة بإعطاء دفعة جديدة للولع بها فى فرنسا وفى أوروبا. واجتاحت هذه الروح الفنون والآداب والفكر العالمى. وهكذا ظهرت فى باريس قطع فنية مستوحاة من الفن المصرى مثل نافورة الفلاح الشهيرة فى شارع سيڤر وتلك التى فى شاتليه، وأصبحت إيزيس إلهة باريس وظهرت فى شعار المدينة وزينت إحدى واجهات متحف اللوفر.
وسرعان ما انتشرت التيمات المصرية فى الزخارف الداخلية للبنايات، وفى قطع الأثاث، وعلى أدوات المائدة المصنوعة فى سيڤر.
بعد نابليون، وعند إعادة اكتشاف شامبليون للغة الهيروغليفية سنة 1822 ظن البعض ان ميلاد علم المصريات هو بمثابة إعلان وفاة للولع بمصر القديمة، غير ان الواقع كان أبعد ما يكون عن ذلك.
ولكننا ندرك اليوم أن الولع بمصر القديمة هو ظاهرة مستمرة بلغت فى عنفوانها قمما عالية.
وهكذا فان افتتاح قناة السويس قد رافقه إبداع أوبرا عايدة وهى من أكثر ما تم عرضه من هذا الفن حول العالم. وقد عنى بتصميم الملابس والديكور ل «عايدة» عالم المصريات الشهير أوجست مارييت. أما عرض توت عنخ آمون سنة 1967 فى باريس فقد أعاد للفرنسيين اهتمامهم بالفن المصرى، فدخل هذا الفن عنصرا فى أحدث صيحات الملابس والمجوهرات. وتلك الظاهرة كانت أكثر وضوحا فى الولايات المتحدة حين نقل إليها معرض توت عنخ آمون بعد ذلك بعشر سنوات، ثم مرة أخرى فى معرض توت عنخ آمون الذى افتتح فى فرنسا فى الشهر الماضى.
وفى عام 1800، تم استدعاء الكسندر برونيار لإدارة مصنع الخزف الملكى فى مدينة سيڤر وعند عودته من مصر أحيا بونابارت تقليد الأطباق الملكية وطلب من المصنع تصميم طقم أطباق فاخر مستوحى من الحملة الفرنسية على مصر. وأوكلت تلك المهمة إلى دومينيك دينون والذى حشد بدوره أمهر الفنانين والحرفيين لإنجازها، لا سيما رفيقه أثناء الحملة على مصر المهندس جون باتست لوبير.
كما أن الفن المصرى دخل فى الكثير من صناعات سيڤر مثل الزهريات التى أهداها بونابرت إلى أرشيدوق النمسا فرديناند الثالث، وغير ذلك من مجموعات الأوشابتى المصرية القديمة.
وهكذا اجتاح الفن المصرى القديم صناعة الخزف فى باريس، واستمر هذا اللون أثناء فترة عودة الملكية، ثم ملكية يوليو والتى أوصت مصانع سيڤر بإنتاج زهريات على الطراز المصرى والتى تم تصنيعها تحت إشراف شامبليون سنة 1832.
ووقع الشعر الفرنسى أيضا أسيرا لسحر مصر القديمة، فمع عودة بونابرت اكتشفت المدرسة الرومانسية الآثار الفرعونية التى ألهبت خيال الشعراء. فالحفريات المصرية كانت تجرى على قدم وساق فى بدايات القرن التاسع عشر، ولم يكن من الضرورى السفر إلى مصر لمتابعة أخبارها. وظهرت الكتب المصورة ومنها «رحلة فى دلتا وصعيد مصر» لدومينيك دينون الذى منه استوحى فيكتور هوجو ديوانه «شرقيات» والذى نشر عام 1829. وفتح هذا الديوان أمام شعر الباروك الفرنسى آفاق الخيال الجامح فى البلدان البعيدة والأديان الغريبة كما نرى عند فيكتور هوجو.
واشتهر الشاعر الكونت دو ليل بفضل ديوانه «أشعار قديمة» الصادر سنة 1852.
ويظهر مدى هوسه بمصر فى قصيدته «نفرو-رع» الصادرة سنة 1862 فى ديوان «أشعار بربرية»، وكذلك فى قصيدته الطويلة «وشاح إيزيس» والتى كتبها فى شكل حوار بين فرعون وهو على فراش الموت وأحد الكهنة.
كما وقع الشعراء الفرنسيون تحت سحر كليوباترا التى أصبحت إلهة الشعر الفرنسى فى القرن التاسع عشر. وهنا أيضا يبرز فيكتور هوجو فى ديوانه «أسطورة القرون».
وكانت الأساطير المصرية مصدرا آخر للإلهام أحبه الشعراء، وكما فرضت كليوباترا نفسها على الشاشة السينمائية منذ بدايات فن السينما، كذلك كان الحال فى مجلات الرسوم المتحركة التى زار كل أبطالها مصر، وأبرزهم تانتان.
واحتفظ كل عصر بحقه فى إعادة قراءة الفن المصرى مضفيا عليه سمات جمالية جديدة: فتمثال أبو الهول ابن القرن السابع عشر لا يشبه نظيره فى القرن التاسع عشر.
ومنذ سبعينيات القرن العشرين تحول الولع بمصر القديمة إلى مادة قائمة بذاتها فى تاريخ الفن، تدرس فى الجامعات وتكتب فيها الكتب والدراسات. ويمكننا أيضا الحديث عن الإجيبتوفيليا، وهو عشق مصر الذى يمكن أن يتحول إلى حب مرضى يذهب بصاحبه إلى أن يشيد بيته على شكل هرم أو أن يبنى قبره على الطراز الفرعونى.
وفى الختام فإن حملة بونابرت على مصر كانت غزوا متبادلا، فقد غزت مصر فرنسا كما غزت فرنسا مصر، لكن إذا كان غزو فرنسا لمصر لم يستمر إلا ثلاث سنوات فإن غزو مصر لفرنسا مستمر حتى يومنا هذا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.