دخل نابليون بونابرت مصر جنرالًا وخرج منها إمبراطورًا. وفى منفاه على جزيرة سانت هيلانة كان قد أحرق كل الكتب والأوراق والشهادات التى كتبها قادة جيش الشرق المَهيب عن الحرب، وعزم على أن يكتب التاريخ وحده. أراد أن يصنع من نفسه أسطورة، وكان له ذلك. ثم كتب المؤرّخون فى عهده ومن بعده عن «الأسطورة السوداء» التى خلقها رجلٌ وقف فى وجه أوروبا، وملأها بالقبور والرماد والدموع كما قال شارل ديجول. ثم ها هو يغزو الشرق من أجل تحقيق طموحاته وأحلامه الشخصية العِظام، فكانت الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801م). فى المذكرات التى أملاها نابليون بونابرت بنفسه، سيكون واضحا أنها لم تكن مجرد حملة بالعتاد والسلاح وتحرّكات الجنود المُحاربة، لقد تعامل نابليون مع الحملة على مصر، بوصفها حرب فتوحات، ودخلها بوصفه فاتحًا، سيكون عليه الانغماس فى المجتمع المصرى وديانته وتقاليده حتى النخاع. سيتظاهر وينجح فى التماهى، بأن يكون مصريا بل ومسلما، حتى جنوده وأفراد جيشه أرغمهم على التخلّى عن اللباس الإفرنجى، واستبداله بالجلباب والعمّة. حتى أن مينو الذى خلفه، تزوّج ابنة شيخ كبير، وكانت بالنقاب. سيكون الإسلام بوابة العبور التى أمّنت لجيش نابليون الاستقرار والحفاوة فى مصر، تمامًا مثلما سيكون اليقين المطلق الذى يتمسّك به بعض أصحاب العمائم، هو اليقين ذاته الذى هزم نابليون من قبل واترلو. فى المذكرات، وبعد مائتى عام على حملته على مصر، سنتعرّف على رأى نابليون فى الإسلام، وحقيقة إسلامه التى ظلّت عنوانًا مغريًا لتناول سيرته والقراءة عنه. هنا سيفرد فصلا من ثمانى صفحات عن الشأن الإسلامى فى مصر، يطرح جوانب مهمة وخطيرة فى تكنيك الحرب لدى نابليون، وهو الذى يتلخّص فى تغذية الحسّ الدينى والطبيعة الدينية لدى الشعوب العربية، خاصة فى مصر، مع وجود الجامع الأزهر، الذى يعتبره نابليون فى مذكراته «سوربون» الشرق، ويستخدم هذا اللفظ كثيرًا. هذا التكنيك باللعب على الوتر الدينى، كما يخبرنا لاحقا، استقاه من الإسكندر الأكبر، الذى يقول عنه أنه «فهم طبيعة هذا الشعب الجميل». لا تُتيح مذكرات نابليون التى صدرت أخيرا بالعربية فى كتاب ذى قطع كبير بغلاف جيّد وطباعة أنيقة وورق عالى الجودة من إصدارات المركز القومى للترجمة وبترجمة سلسة لعباس أبوغزالة، الذى حصل على الدكتوراه من السوربون فى تاريخ المسرح الفرنسى، وألّف كتاب «كليبر ضد بونابرت»؛ أي معلومات ذاتية أو إنسانية أو ذات خصوصية عن هذا «البطل الملحمى» مثلما تنعته أدبيات البلاط النابليونى. هى مذكرات عن يوميات الحملة الفرنسية على مصر تفصيليا؛ بكل تداعيات الحملات العسكرية المملّة بالطبع، تحرّكات الجيش، رأيه فى جنوده وقادة جنوده، وغيرها من الأمور، أملاها القائد الأعظم، أو «السلطان الكبير» كما يُنادِى نفسه فى المذكرات، بضمير الغائب - مما يزيد الانطباع بجنون العظمة الذى يُلخّص رحلة صعود الفتى الطموح ذى الأصل الكورسيكى القادم من جزيرة صقلية - إلى خادمه/سكرتيره وبعض من قادة جيشه. لكن المذكرات، التى يصلح أكثر قراءتها بوصفها تقريرًا موسّعًا عن دوافع نابليون ومنهجه فى الحروب والفتوحات تتيح بين الأسطر فهمًا لطبيعة تفكير هذا الرجل وما كان يُحرّكه. ومن ثم يمكننا الوقوف على بعض آرائه الشخصية وانطباعاته الذاتية عن طبيعة الحياة والعيش فى مصر والشرق. بين حُلم القيصر وحياة الإسكندر.. يمكننا حصر ملحمة بطل فرنسا الذى أنهكها وأنهكته. «الإسكندرية مدينة الخرائب» كانت بالنسبة لنابليون بونابرت بوابة مصر التى أهملها المصريون. أما الإسكندر الأكبر، فظلّ المثال الذى وضعه البطل الملحمى نصب عينيه، وقادته الرغبة فى تقليده إلى هزيمة أحلامه، كان نابليون يرى نفسه الإسكندر الذى سيحرّر مصر. وسلك حرفيًا مسيرة الإسكندر الفاتح. سيلوح طيف القيصر وبطولات الإسكندر طوال صفحات المذكرات، فيكتب نابليون عن الإسكندر: «يعتبر أفضل رجال السياسة الذين درسوا عبقرية الشعب المصرى».
مقارنة الأديان بامتياز نابليونى: فى فصل يعد أقصر فصول المذكرات التى تمتد إلى ما يقارب الخمسمائة صفحة، وهو الذى سيفرد فيه نابليون رأيه فى الإسلام، يمارس الجنرال الأعظم مبكرًا ما أصبح شائعًا فى عصور متقدمة فى مجال الدراسات المقارنة، وهى دراسات مقارنة الأديان. قرأ نابليون القرآن جيدا على ما يبدو، وكما هو معهود عليه القراءة والتفكير العميق. يبدى فهما متطوّرا وآراء علمانية لم تكن قد اخترعت بعد فى وقته، وبإمكان هذه الآراء اليوم، بل قطعا ستغضب عقلية التشدّد. يتتبّع نابليون على سبيل المثال، الفرق بين نفسية العربى واليونانى مثلا. ولأن العربى يعيش فى صحراء، فكان وعد المُصطفين فى الدين الإسلامى الذى نزل على أهل الصحراء بأنهار من اللبن والعسل المُصفّى، لأن العربى فى الصحراء تظل رحلته هى البحث عن الماء. فيكتب: «يميل البدو إلى مثل هذه النزل الخلابة، فيُعرّضون أنفسهم للخطر لينالوا بغيتهم ويصبحوا أبطالا». من هنا يقرّ أن الدين الإسلامى نزل ليلائم طبيعة الإنسان العربى ويستميله باحتياجاته. بينما المسيحية فتعلى من شأن «المتعة الروحية»، وتضع الأخلاق المسيحية نصب أعينها قمع الجسد وتقشّفه، فى حين جنة المختارين تُعلى من شأن الجسد. سنقف فى الجزء من المذكرات عن الدين الإسلامى بعنوان «شئون إسلامية»، على تكنيك الحرب النفسية التى اتّبعها نابليون مع رجال الدين حتى يستميلهم، لأنه دخل مصر وهو يعرف أن «الدين هو العقبة الأساسية أمام إقامة سلطة فرنسية». يكتب: «كان هناك سوربون الجامع الأزهر، والمذاهب الأربعة، وفى القاهرة مفتى، ولم يدّخر نابليون وُسعا لمراوغتهم والثناء عليهم». يدلّل على ذلك بأن الرسول خاطب شعوبا بدائية تعيش فى جهل مطبق، وأنه لو كان خاطب عقولهم لما استمعوا إليه.. كان هذا ظاهر نابليون مع المسلمين فى مصر، لكن بعدما يخرج منها سيكتب عن الرسول محمد أنه كان «أميرا» ودعوته ستكون «الثورة» فى لغة نابليون. يقول عن النبى «رجل عظيم كان يمكن أن يكون إلها»، بينما المسيح لم يطالب بعرش آبائه، «ما لقيصر لقيصر»، ولا يقدم الإنجيل قاعدة لإدارة أمور الدنيا، لذلك لم ينافس المسيح القيصر، ولم يثر الدين المسيحى غيرة القياصرة. يكتب نابليون هذه المعلومات للقارئ الفرنسى، يقول إن الدين المسيحى دين شعب متحضّر، يعمل بتأثير قوة الإقناع، لذلك احتاج أربعة قرون حتى تعتلى المسيحية العرش، لكن سيدخل رأى نابليون إلى مناطق شطط، يظهر منها تعصّبه المسيحى حين يقول: «لم يعتمد ارتقاء المسيحية على نجاح أى حدث ثانوى،ولم يكن هناك ما يحول دون انتشارها». ويبدو هنا يناقض نفسه، متجاهلا الأحداث التى توطّدت بها المسيحية بعد خمسة آلاف عام من وفاة المسيح.
أراد تطويع العالم فعاش فى الماضي سنتعرّف فى مواضع أخرى من المذكرات، على ماذا كان يفكّر بونابرت فى المصريين، كيف رأى مصر، وكيف نظر إلى خليفته «كليبر» الذى اختاره كبش فداء، وترك له مصر والأسطول الفرنسى فى آخر درجات إنهاكه. فى فصل فى الكتاب بعنوان «مصر فى عهد كليبر» كيف يُكمل نابليون رتوش العظمة التى يمسح بها سيرته، ويكتب بسرد الراوى العليم عن كليبر، كيف ننظر إلى موته ونهايته بعينى نابليون، وكيف من قبل؛ تدرّجت علاقة الرجلين بعد التعلّق الشديد والولاء الأقوى من كليبر إلى نابليون ثم العداوة والخصومة والكراهية الضمنية والمستترة، بعدما أيقن كليبر أيّ مصير غابر رماه فيه قائده الأعظم. كيف يمكننا أن نقرأ كل لحظات التاريخ تلك بعيون أصحابه. هذه الأجزاء هى أمتع ما تقدمه تلك المذكرات. لذلك يُنصح بتجاوز الفصول الأولى التى تسرد طبيعة تضاريس ومناخ وبيئة مصر، وحتى تفاصيل دخول سوريا وعكا، ونقترح بالقفز عليها للتوقف داخل الفصول المحددة التى يرد ذكرها داخل هذا المقال. ثم الأهم، إلى أى درجة يمكن إعادة قراءة التاريخ، الذى قُدّم لنا فى مناهج المدارس والتعليم المؤسسى بروح البطولات الوطنية (العمياء) ضد الأعداء أو «الكفّار» كما يُكرر نابليون هذه اللفظة على جيشه كما كان يتوقعها دائما من المصريين المتديّنين تجاه الغزاة غير المسلمين. ثم فى الوقت نفسه، تتيح المذكرات فرصة لمراجعة التاريخ من دون أن يكون الموقف المضاد/ المعتدل بالضرورة هو الاحتفاء بمئوية الحملة الفرنسية وما خلّفته فقط من مدخلات حضارية وآثار ثقافية غيّرت موقع مصر على خارطة الحضارة. ببساطة؛ هذه رؤية الرجل، يقدّمها فى أكثر لحظات مسيرة مجده التراجيدية ضعفا وخيبة. معزولا فى جزيرة نائية مجرّدا من كتبه ومكتبته وحاشيته (عتاده وصولجانه). فقط خادم/أمين مكتبة وثلاثة من قادة وجنرالات جيشه، بقوا على العهد بالوفاء به وتبجيله ثم خدمته. رؤية هى خلاصة جهد «سيّد أوروبا السابق» والتى أفرد لها جلّ وقته فى المنفى، فتخرج محمّلة بملامح إنسية/ بشرية بما فيها من تناقضات وأخطاء وديكتاتورية لرجل تعامل مع نفسه بوصفه إلها. المذكرات هذه بالتأكيد؛ وقفات تاريخية لسيرة الحملة ورجلها الأوّل، الذى رأى فى نفسه منذ اليوم الأوّل امبراطورا عظيما وقائدا فاتحا ومهيبا يلين له الحديد، ولن تستقيم له خاتمة إلا ملكا على عرشه. تحمل من الوجاهة والطرافة أحيانا، وبكل سقطات المكابرة وشجاعة الاعتراف أحيانا أخرى. فى الصفحات الأخيرة من المذكرات/السيرة، وفى فصل «معركة أبو قير البحرية» لا يعترف نابليون بونابرت بالهزيمة حتى وهو يسرد تفاصيل مَهابة الأسطول الإنجليزى على البحر. ويغض الطرف عن أنانيته وفرديته فى كثير من قراراته طوال الحملة وفى صفحات الكتاب، لكنه ينهزم فى موضع آخر من المذكرات. ينهزم أمام القدر والاعتراف بخزيه فى منفاه حين يقول «هذا المقام ليس مريحا، كان من الأفضل لى لو بقيت فى مصر لكنت الآن امبراطورا على كل الشرق». وهذه العبارة اختيرت كختام لمذكرات/ رحلة هذا البطل الشكسبيرى بامتياز، الذى حمل مواطن حتفه فى ذاته.. ستتحطّم آماله، ويقرّر المنتصرون تحديد إقامته ومراقبته فى جزيرة براكين فى قلب جنوب الأطلنطى. وهناك؛ سيعمل على تنفيذ نصيحة مُرافِقه.. «سيعيش فى الماضى».