بعد تصديق الرئيس.. تعديلات قانون الإجراءات الجنائية نقلة حقيقية في ملف حقوق الإنسان    أسعار الدواجن والكتاكيت والبيض في السوق المصرية    إدارة الطيران الأمريكية تحذر من مخاطر التحليق فوق فنزويلا    جدول مباريات اليوم حول العالم: مواجهات قوية في أوروبا وإفريقيا    البث المباشر لمباراة ليفربول ونوتنجهام فورست في الدوري الإنجليزي    «يوميات ونيس».. العمل الذي صنع ذاكرة جيل ورسّخ قيم الأسرة في الدراما المصرية    مباراة العار، اشتباكات بين متظاهرين لدعم غزة والشرطة الإيطالية خلال لقاء فيرتوس ومكابي تل أبيب (فيديو)    بيسكوف: مستوى اتصالات التسوية بين موسكو وواشنطن لم يحدد بعد    رئيس المدينة اكتشفه بالصدفة، هبوط أرضي مفاجئ أمام مستشفى ميت سلسيل بالدقهلية (صور)    برنامج «دولة التلاوة» يعيد لمة العيلة المصرية على شاشة واحدة    فلسطين.. جيش الاحتلال يقتحم حي الضاحية في نابلس شمال الضفة الغربية    ماذا حدث في ليلة ختام مهرجان القاهرة السينمائي؟.. التفاصيل الكاملة    المرأة العاملة| اختيارها يحمي الأسرة أم يرهقها؟.. استشاري أسري يوضح    أبرزها وظائف بالمترو براتب 8000 جنيه.. «العمل» توفر 100 فرصة للشباب    محمد التاجي: لولا تدخل السيسي ل"طبل" الجميع للانتخابات وينتهي الأمر دون كشف التجاوزات    حدد الموعد، رئيس الاتحاد الفرنسي يتحدث عن اقتراب زيدان لتدريب منتخب الديوك    اختطاف واحتجاز أكثر من 200 تلميذ و12 معلما في هجوم مسلح على مدرسة كاثوليكية بنيجيريا    صافي الأرباح يقفز 33%| بنك البركة – مصر يثبت قوته المالية    من 18 إلى 54 ألفًا.. زيادة تعجيزية تهدد مصدر رزق مزارعي بهادة بالقليوبية    محمد موسى يهاجم الجولاني: سيطرتك بلا دور.. والسيادة السورية تنهار    تطورات مثيرة في قضية سرقة عصام صاصا للحن أغنية شيرين    التوقعات السامة| خبيرة أسرية توضح كيف تحول الزواج لعبء على المرأة    استشارية: خروج المرأة للعمل لا يعفي الرجل من مسؤولية الإنفاق أبدًا    عضو "الشؤون الإسلامية" يوضح حكم التعامل مع الدجالين والمشعوذين    الصورة الأولى لعروس المنوفية التي لقيت مصرعها داخل سيارة سيارة الزفاف    محلل سياسي عن لقاء السيسي ورئيس كوريا: مصر مركز جذب جديد للاستثمارات    شيكو بانزا يوضح سبب تأخر عودته للزمالك    مداهمة مفاجئة تكشف الإهمال.. جمعية زراعية مغلقة وقرارات حاسمة من وكيل الوزارة    ترامب: نعمل مع لبنان لتحقيق السلام في الشرق الأوسط ونمارس ضغوطًا لنزع سلاح حماس    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الأحد في الدوري الممتاز    الجيزة: تعريفة ثابتة للسيارة بديلة التوك توك ولون موحد لكل حى ومدينة    مصطفى حجاج يكشف حقيقة الخلاف بينه وبين هاني محروس    تعرف على حالة الطقس اليوم السبت فى سوهاج    آية وأحمد وسليم.. ثلاثة أسماء أشعلت الحزن اليوم على السوشيال ميديا| صور    مارسيليا يتصدر الدوري الفرنسي مؤقتا بفوز ساحق على نيس    بسبب ركن سيارة.. قرار هام في مشاجرة أكتوبر    محلل أداء الأهلى السابق: الفريق استقبل أهدافا كثيرة بسبب طريقة لعب ريبيرو    مسئول إسرائيلى: سنحصل على الشرعية لنزع سلاح حماس إذا لم ينجح الأمريكيون    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. ترامب: ممدانى رجل عقلانى جدا ونتفق فى الغاية وهو ليس جهاديا.. طوارئ فى فرنسا استعدادا لحرب محتملة مع روسيا.. وزيلينسكى عن الخطة الأمريكية للسلام: نواجه لحظة حاسمة    أخبار × 24 ساعة.. السياحة: 1.5 مليون سائح ألمانى زاروا مصر منذ بداية 2025    إعدام كميات كبيرة من الأغذية والمشروبات غير الصالحة بالمنوفية    أحمديات: برنامج دولة التلاوة رحلة روحانية مع كلمات الله    محمد أبو سعدة ل العاشرة: تجميل الطريق الدائري يرتقى بجودة حياة السكان    صلاح بيصار ل العاشرة: أحمد مرسي علامة كبرى في الفن والأدب السريالي    أحمد حسن يكشف أسباب عدم ضم حجازى والسعيد للمنتخب الثانى بكأس العرب    اكتشاف عجز 44 طن سكر داخل مضرب بكفر الشيخ.. وضبط أمين المخازن    رمضان صبحي أمام المحكمة في قضية التزوير| اليوم    11727 مستفيدًا في أسبوع سلامة الدواء بالمنوفية    نصر عبده: إعادة الانتخابات تصحح الصورة الدولية.. ومصر تأتي ببرلمان يريده الشعب    رئيس جامعة المنيا يناقش إعداد الخطة الاستراتيجية للجامعة 2026–2030    جعجع: لبنان يعيش لحظة خطيرة والبلاد تقف على مفترق طرق    عالم بالأوقاف: الإمام الحسين هو النور المكتمل بين الإمامة والنبوة    البابا تواضروس الثاني يلتقي مقرري اللجان المجمعية    شوقي علام حول التعاملات البنكية: الفتوى الصحيحة تبدأ بفهم الواقع قبل الحكم    كيف يؤثر تناول السكر على مرضى السكري وما الكمية المسموح بها؟    «الزراعة» تواصل حملاتها لحماية الثروة الداجنة    جامعة بنها ومؤسسة حياة كريمة ينظمان قافلة بيطرية بمنشاة القناطر    الجالية المصرية بالأردن تدلي بأصواتها في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نابليون الإسلامى.. يحتفل بالمولد النبوى!!
نشر في الأهرام العربي يوم 09 - 01 - 2015


عرفه عبده على
كان للحملة الفرنسية عام 1798 بقيادة الجنرال " نابليون بونابرت -Napoleon Bonaparte " آثارها السياسية و الاجتماعية والفكرية العميقة في تاريخ مصر الحديث، وقد أثارت هذه الحملة اهتمام كثير من المستشرقين، كما حظيت باهتمام المؤرخين المصريين وعلى رأسهم العلامة "عبد الرحمن الجبرتي" والشاعر المؤرخ " نقولا ترك " الذي رافق الحملة و عاش أحداثها ورصد وقائعها التاريخية مع التحفظ تجاه ما كتبه من نقد للمسلمين!
وفي ظل الأوضاع التي كانت سائدة بمصر في ذلك العصر . كان علماء الأزهر في نظر نابليون: أكثر عناصر المجتمع المصري نفوذاً وهيبة وعلماً واحتراماً، وقد أرسى نابليون مباديء عامة لسياسته في حكم شعب مصر ، والتي أطلق عليها المؤرخون الأوروبيون مصطلحاً تاريخياً : سياسة بونابرت الإسلامية – La Politiqu Musulmane de Bonaparte وكان جوهر هذه السياسة إظهار الاحترام للدين الإسلامي والتقاليد الدينية المتوارثة، وإسهام "جيش الشرق" رسمياً في احتفالات شعب مصر بالأعياد و المواسم الدينية والقومية، و التقرب إلي علماء وشيوخ الأزهر ومنحهم قدراً من السلطة والنفوذ باختيارهم أعضاء في "ديوان القاهرة " حتى يضفي على حكومته الطابع الإسلامي ! .. ويكتسب تأييد علماء الأزهر للحكم الفرنسي !
اعتمد نابليون سياسته "الإسلامية" وهو لا يزال في عرض البحر المتوسط في طريقه إلي مصر عندما كتب منشوراً من على متن بارجة القيادة « Orient» بتاريخ 22 يونيو عام 1798 إلي جيش الشرق، وأذيع على جنود الحملة في الثامن والعشرين من يونيو ، أي قبيل وصول الحملة إلي الإسكندرية بيومين، وقد أوضح نابوليون لجنوده: إن الشعب المصري يدين بالإسلام وأن أول ركن من أركان الدين الإسلامي هو الشهادتان «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» فلا ينبغي على الفرنسيين معارضة المصريين في عقيدتهم الدينية، بل عليهم أن يسلكوا معهم نفس السلوك الذي انتهجوه من قبل مع اليهود والإيطاليين، وعليهم أن يظهروا نحو المشايخ والأئمة الاحترام الذي أظهروه لحاخامات اليهود وأساقفة المسيحيين، وعليهم أن يكونوا متسامحين حيال الأعياد و الاحتفالات التي يذكرها القرآن الكريم، وأن يحترموا المساجد كما يحترمون كنيس اليهود وكنائس المسيحيين والأديرة، وأن يحترموا ديانة محمد، كما يحترمون ديانة موسى وديانة المسيح.
ويعتبر هذا المنشور من المعالم الأولى لسياسة بونابرت الإسلامية، وقد أراد أن يحمل جنوده على التزام هذه السياسة، ويلاحظ أن توزيع هذا المنشور كان مقصوراً على العسكريين الفرنسيين دون سواهم، وقد جاء في صورة أمر عسكري واجب التنفيذ، صدر عن القائد العام لجيش الشرق، ولم يعلم به الشعب المصري ، واستهدف بونابرت منه اجتذاب قلوب المصريين نحو الفرنسيين، إذ يرون جيشاً أوروبياً مسيحياً يستولى على بلادهم عنوة، ولا يلجأ إلي أعمال النهب والسلب، والقتل وانتهاك الحرمات!
وكتب بونابرت أيضاً وهو على ظهر البارجة " أوريان" منشوراً باللغة الفرنسية موجهاً إلي الشعب المصري شرح فيه الخطوط الرئيسية للسياسة التي يعتزم انتهاجها في مصر، وقام المستشرقون المرافقون للحملة بترجمة المنشور إلي اللغة العربية، وساعدهم مترجمون من الأسرى المسلمين الذين كان فرسان القديس يوحنا قد اعتقلوهم في جزيرة مالطة منذ سنوات طويلة، و ألقوا بهم في غيابة السجن، وأطلق بونابرت سراحهم عقب استيلائه على الجزيرة وهو في طريقه إلي مصر، وقد جاءت الترجمة غير دقيقة وفي أسلوب ركيك، و أضيفت إليها – بتوجيه من بونابرت – عبارات لم ترد في الأصل الفرنسي وأمر بونابرت بطبع الترجمة العربية للمنشور، والحملة لا تزال في عرض البحر، حتى يكون المنشور معداً للتوزيع على أفراد الشعب المصري بمجرد وصول الحملة إلي الإسكندرية، وكان بونابرت قد أحضر مع الحملة مطبعة مزودة بالحروف الفرنسية واليونانية والعربية التي جمعها من باريس، ثم استكمل لها الحروف العربية الناقصة في مطبعة "البروباجندا " في روما، ولما نزلت الحملة في الإسكندرية في يوم الاثنين الثامن عشر من محرم 1213 الموافق الثاني من يوليو 1798 وزع المنشور على المصريين، كما أرسلت نسخ منه إلي القاهرة مع أسرى مالطة ، فوزعه في العاصمة قبل وصول الفرنسيين إليها؟
بدأ بونابرت منشوره إلي الشعب المصري بهذه العبارات الدينية: «بسم الله الرحمن الرحيم: لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في ملكه: من طرف الفرنساوية المبنى على أساس الحرية و التسوية السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابرته».
أكد بونابرت في أكثر من موضع في هذا المنشور أنه لن يتعرض بسوء للدين الإسلامي، بل إنه أكثر من المماليك عبادة لله، واحتراماً لنبيه صلوات الله عليه، وللقرآن الكريم، وقرر في منشوره أن الفرنسيين مسلمون مخلصون (جاءت هذه العبارة في الأصل الفرنسي : - إننا أصدقاء للمسلمين المخلصين – Que nous sommes amis des vrais musulmans ولم يقع هذا التحريف في الترجمة عفواً، بل جاء مقصوداً، ولم يقبل بونابرت أن يسجل على نفسه هذا الإقرار في الأصل الفرنسي بأن الفرنسيين مسلمون مخلصون صادقون مهما قيل من مبررات أمام الرأي العام الفرنسي، ولكن قام المترجمون بإدخال هذا التعديل وغيره في الترجمة العربية بتوجيه من بونابرت).
ومن مظاهر سياسة بونابرت الإسلامية تودده إلي المشايخ علماء الأزهر، أضفى عليهم الكثير من مظاهر الاحترام والتقدير، واستبقى لهم امتيازاتهم، وعلى رأسها حصصهم في نظام الالتزام في القرى، وتنظرهم على الأوقاف، وأمر بأن يؤدي رجال حرس الشرف الذين يرابطون أمام مقر القيادة العامة للجيش الفرنسي في الأزبكية التحية العسكرية بالسلاح لعلماء الأزهر، إذا جاءوا إلي مقر القيادة ، فإذا دخلوا هذا المقر خف لاستقبالهم رجال الياوران والمترجمون يرحبون بهم، و يقودونهم إلي الصالون الرئيسي في القصر، وتقدم لهم المرطبات ثم القهوة، فإذا فرغوا من تناولها دخل عليهم بونابرت ورحب بهم، وجلس وسطهم، محاولاً أن يدخل في نفوسهم الطمأنينة والثقة . وكان يخوض معهم – بواسطة المستشرق " فنتور – J.M.Venture " الذي كان يقوم بوظيفة المترجم – في مناقشات علمية تتناول القرآن الكريم، ويطلب بونابرت من المشايخ تفسير بعض الآيات . وكان يحرص على إظهار الاحترام الشديد للنبي صلوات الله وسلامه عليه. ويخرج المشايخ من عنده وهم ألسنة تلهج بالشكر والثناء، ويذهبون إلي الجامع الأزهر، ويجتمعون بمن فيه، ويتحدثون إليهم عما شاهدوه وسمعوه، ويعلق بونابرت على هذا المسلك بأن المشايخ علماء الأزهر قد أدوا خدمات جليلة للجيش الفرنسي . وقد أشاد في مذكراته بخصالهم، وقال إنهم طاعنون في السن، وإن علمهم وطباعهم وآراءهم، بل وعراقة أصولهم، وكرم محتدهم، كل أولئك يحمل الإنسان على إظهار مزيد من الاحترام نحوهم . ومضي بونابرت في مذكراته فقال: إنها كانت مفاجأة سارة لعلماء الأزهر حين أدركوا بعد شهر واحد من دخول الفرنسيين القاهرة أنهم أصبحوا ذوي نفوذ كبير، وأنهم يشتركون في شئون الإدارة والحكم، وكانت كل قراهم وممتلكاتهم الخاصة موضع الرعاية التامة، ولم يسبق أن تمتع هؤلاء الرجال بمثل هذا التقدير.
ويجدر بالذكر أن بونابرت أصدر في 27 يوليو 1798 – أي في خلال الأسبوع الأول لدخوله القاهرة – قراراً بتخصيص جواد لكل عضو من أعضاء ديوان القاهرة!
"البكري".. نقيباً للأشراف!
وكان من مظاهر سياسة "السلطان الكبير بونابرته" كما أطلق عليه أهل القاهرة، اهتمامه العميق بالأعياد الدينية الإسلامية، ففي شهر أغسطس 1798 – وهو الشهر التالي لدخوله القاهرة – حلت مناسبة دينية يحتفل بها المصريون احتفالاً شعبياً واسعاً، وهي المولد النبوي الشريف، وكان الاتجاه العام لدى الشعب هو عدم إقامة احتفالات في هذه الذكرى الكريمة نظراً للظروف العصيبة التي كانت تجتازها البلاد وقتذاك، ولعل هذا الموقف السلبي في تلك المناسبة الدينية كان تعبيراً شعبياً دينياً عن السخط على الحكم الفرنسي، ولكن كان هذا الموقف من ناحية أخرى يتعارض تماماً مع سياسة بونابرت الإسلامية، ومن ثم أمر بأن تقام احتفالات كبرى، تفوق في روعتها وبهائها الاحتفالات التي كانت تقام في هذه المناسبة على عهود السلاطين المماليك، وغيرهم من الحكام المسلمين كما أمر أن يشترك الجيش و الموسيقات العسكرية في الاحتفالات، وأن تطلق المدافع نهاراً، والألعاب النارية والصواريخ ليلاً، وأن تعلق أمام مقر القيادة العامة للجيش الفرنسي في الأزبكية قناديل ذات زجاج متعدد الألوان، لتبدو في غاية البهجة عند إضاءتها ليلاً .
وقد مهد بونابرت لاحتفالات المولد بشغل منصب ديني كبير هو منصب نقيب الأشراف، وقد ظل شاغراً منذ أن هاجر عمر مكرم إلي الشام عقب معركة إمبابة، ولعل المشايخ أعضاء الديوان أو المتطلعين إلي هذا المنصب من أسرة البكري هم الذين فاتحوا بونابرت في ضرورة شغل منصب نقيب الأشراف قبل أن تبدأ احتفالات المولد النبوي الشريف، والاحتمال الثاني هو الأصح، لأن أسرة البكري كانت صاحبة المصلحة في إعادة نقابة الأشراف إليها . وتمشياً مع هذا التوجيه أصدر بونابرت قراراً بتعيين السيد خليل البكري نقيباً للأشراف، وذهب بنفسه إلي دار الشيخ خليل البكري، حيث كان المشايخ أعضاء الديوان قد سبقوه إليها، وهناك وفي حضورهم خلع بونابرت خلعة ثمينة على النقيب الجديد، وكان هذا الإجراء بمثابة إعلام رسمي بتقلده المنصب، وممارسته لسلطات وظيفته، ويقول الجبرتي: «وفي ذلك اليوم ألبس الشيخ خليل البكري فروة وتقلد نقابة الأشراف ونودي في المدينة بأن كل من كان له دعوى على شريف فليرفعها إلي النقيب»!
في الليلة الختامية للمولد النبوي:
ويصف الجبرتي اهتمام "بونابرته ساري عسكر الفرنسيس" باحتفالات المولد، واشتراك الجيش الفرنسي في الاحتفال به، فيقول:"سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم ؟ فأعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال، فلم يقبل، وقال لابد من ذلك، وأعطى له ثلاثمائة ريال فرنساوي معاونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد و لعبوا ميادينهم، وضربوا طبولهم ودبادبهم، و وأرسل الطبلخانة الكبيرة إلي بيت الشيخ البكري، واستمروا يضربونها طوال النهار والليل بالبركة تحت داره، وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية، و عدة آلات ومزامير مختلفة الأصوات مطربة، وعملوا في الليل حراقة نفوط مختلفة ، وصواريخ تصعد في الهواء".
واستمرت الاحتفالات بالمولد النبوي من 19 إلي 23 أغسطس 1798، أوقدت خلال لياليها القناديل، وأمست شوارع القاهرة وطرقاتها بمثابة أسواق ليلية . واختص الفرنسيون ثلاثة بيوت في القاهرة بالإضاءة القوية الكثيفة الممتازة طوال الليالي الخمس التي استغرقتها احتفالات المولد، وكانت هذه البيوت هي: دار بونابرت، ودار ديبوي الحاكم العسكري لمنطقة القاهرة، ودار السيد خليل البكري . وكان أرباب الطرق الصوفية والاتباع والمريدون والدراويش وأصحاب الأشاير ومن إليهم يطوفون في مواكب جرارة، يحملون المشاعل والأعلام، وينشدون في أصوات هادرة عبارات دينية بين دق الطبول والتكبير، وذكر اسم الرسول صلوات الله عليه: وسارت في أثر هذه المواكب الدينية مواكب الطوائف، يتقدم كل طائفة شيخها ونقيبها وأعلامها وشاراتها.
"بونابارته" فى بيت البكرى!
وحضر بونابرت الليلة الختامية للمولد في دار السيد خليل البكري، كما حضرها العلماء الفرنسيون أعضاء مجمع مصر العلمي، وكبار ضباط الجيش، وجلس القائد العام أرضاً ساعات طوالاً يستمع إلي المقرئين يتلون آيات القرآن الكريم، وإلي المنشدين وهم يتلون "السيرة النبوية" والتواشيح الدينية، وكان كبار المشايخ يجلسون أرضاً حوله، وكل منهم يمسك مسبحة في يده، ينصت لما يتلى . وبلغ من دهاء بونابرت أنه أخذ يقلد الحاضرين، فكان يهتز ذات اليمين وذات الشمال كأنه مدرك لما يقولون، متأثراً بما يتلون، وأظهر صبراً لم ينفد في شهود حفلة الذكر من بدايتها حتى نهايتها، وقد تخللتها مأدبة عشاء أقامها السيد خليل البكري، ومدت الأسمطة على الطريقة الشرقية: واشترك الضيوف الفرنسيون مع المدعوين المصريين في الجلوس أرضاً على وسائد إلي هذه الأسمطة وكان السماط الذي جلس إليه بونابرت، والسيد خليل البكري يتوسط الأسمطة الأخرى، وقد بلغ عددها خمسين سماطاً . وكان بونابرت يأكل بيديه، فيمد يمينه في تلال الأرز وأكوام اللحم وأطايب الطعام المقدم على صوان نحاسية ضخمة مستديرة، وحذا الضيوف الفرنسيون على مضض حذو بونابرت، فكانوا يأكلون بأيديهم مع المشايخ والأعيان، ويشربون الماء المعطر برائحة الورد!
ويقول المؤرخ "نقولا ترك " في ذكر ما صنعه "أمير الجيوش" في مولد النبي الواقع في 12 ربيع الأول سنة 1213 أن أمير الجيوش بعد تملكه القاهرة في اثنى عشر ربيع أول كان مولد النبي محمد فصنع في ذلك الأوان مولداً عظيماً على بركة اليزبكية كعادة أهل القاهرة وكانت ليلة عظيمة لأنه صف جميع العساكر الموجودة داخل القاهرة صفوفاً بطبولهم والآلات الموسيقية وأمر بحراقات عظيمة و ضرب مدافع كثيرة وكان احتفالاً عظيماً ومولداً فخيماً وحضر في الوليمة بمنزل الشيخ خليل البكري لأن هذا المولد مختص بالسادات البكرية، وذلك مع كامل الجنرالات والفيسالية والعلماء والأعيان وأصحاب الديوان ثم أولى الشيخ خليل البكري منصب النقابة عوضاً عن السيد عمر مكرم نقيب الأشراف.
وقد ضربت ذلك النهار مدافع كثيرة من سائر الأماكن، ومن القلعة الكبيرة وصنعت الفرنساوية في تلك الليلة مدافع كثيرة من سائر الأماكن ومن القلعة الكبيرة وصنعت الفرنساوية في تلك اللية "حراقات عظيمة" لم تكن صارت قي المدن القديمة وكان أماناً شاملاً لكل الناس وخرجت النساء والرجال من دون بأس، وصنع أمير الجيوش وليمة عظيمة لسائر الأعيان والعلماء وأهل الديوان والجنرالية الفيسالية وحكام الخطوط المصرية وقد أعجبت أهل القاهرة تلك الأحوال الباهرة والأمور الصايرة".
وقد انتهج نابليون سياسة إعلامية مدروسة عقب الاحتفالات بالمولد النبوي، حيث أرسل رسالة بتاريخ 28 أغسطس 1798 إلي الجنرال مارمون Marmont يطلب منه مقابلة الشيخ محمد المسيري كبير علماء الإسكندرية ورئيس ديوانها، ويشرح له كيف احتفل بونابرت بالمولد النبوي في القاهرة، وأمره بأن يذكر له في ثنايا الحديث أن بونابرت يجتمع ثلاث أو أربع مرات كل عشرة أيام مع كبار المشايخ ورؤساء الأشراف الذين ينحدرون من الدوحة النبوية الشريفة، وأن له مع هؤلاء وأولئك أحاديث ومناقشات، ثم قال في رسالته: «إنه لا يوجد من هو أكثر مني اعتقاداً في طهارة و قدسية الديانة المحمدية».
وفي ذات اليوم – 28 أغسطس – أرسل بونابرت إلي الشيخ محمد المسيري رسالة كان مما جاء فيها : «تعلمون التقدير الخاص الذي شعرت به نحوكم منذ اللحظة الأولى التي عرفتكم فيها، إني أرجو ألا يتأخر الوقت الذي أستطيع فيه جمع كل الرجال العقلاء، والمتعلمين في البلاد، وإقامة نظام موحد يقوم على مبادئ القرآن التي هي وحدها المبادئ الحقة، والتي هي وحدها قديرة على إسعاد الناس».
ومضى بونابرت في سياسته الإعلامية، مستغلاً احتفالات المولد النبوي الشريف، فأرسل في 29 أغسطس إلي الجنرال كليبر نسخة من عدد جريدة Courrier de l'Egypte الصادر في ذات اليوم، وكان هو العدد الأول من هذه الجريدة الإخبارية الفرنسية التي أصدرتها قيادة الحملة، وكانت تطبع في القاهرة، وقد تضمن هذا العدد مقالاً عن الاحتفالات التي أقيمت بالقاهرة بمناسبة المولد النبوي، وإسهام الفرنسيين في هذه الاحتفالات إسهاماً رسمياً، وقد طلب بونابرت من كليبر اتخاذ الإجراءات لترجمة هذا المقال إلي اللغة العربية، و العمل على طبعه وإذاعته في جميع أنحاء الشرق، وأن يرسل إلي بونابرت أربعمائة نسخة من الترجمة العربية.
لقد أدرك الشعب بسليقته أن هذه الأفعال ليست صادرة عن عقيدة حقيقية وإيمان صحيح، وإنما هي ضرب من الخداع والنفاق، وأن بونابرت استهدف منها تخدير الشعب، حتى تتوطد دعائم الحكم الفرنسي في مصر، ثم يظهر بونابرت على حقيقته، وهكذا جاء بنتيجة عكسية إسراف بونابرت في التظاهر باحترام الإسلام! .. وقد رأينا كيف حلل الجبرتي، في عام 1798 ، بيان بونابرت وقد نظر الشيخ الشرقاوي إلي الأمور بالشكل نفسه في السرد القصير الذي قدمه للاحتلال الفرنسي: «إنهم فرقة من الفلاسفة إباحية طبائعية .. يتبعون عيسى عليه السلام ظاهراً»!
لقد كان نابليون يحلم بأن يكون إمبراطوراً للشرق.. على رأسه عمامة "في يده القرآن! .. كان يطمح لأن يحقق مآثر الإسكندر في الهند، لكن أحلامه الوردية آنسته أنه لا يستطيع أن يكون ذلك الملك القديم الذي يطوف من حوله ملايين العبيد، وأن شعوب عصره لا تقبل أن تنحر نفسها على مذبح فاتح حالم!
وهكذا حطم أهل القاهرة أحلام نابليون، التي انهارت تماماً على " أسوار عكا " وليسدل الستار على أهم فصول دراما "السلطان الكبير" ! ... لكن بوابة حضارية كانت قد انفتحت بين الشرق والغرب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.