دق الحريق المروع بمصنع الأحذية بمنطقة فيصل جرس إنذار مدو لما يمكن أن يقع من كوارث بالأحياء السكنية، فقط تنتظر شرارة صغيرة للانفجار في وجوهنا، وتهدد حياة آلاف المصريين، وسلط دخانه الكثيف الأضواء على جملة من السلبيات الخطيرة، التي يتعين التخلص منها بدون تراخ ولا تهاون، حتى لا نندم ونقول ليتنا فعلنا كذا وكذا في التوقيت الملائم وقبل فوات الأوان. تلك السلبيات الكارثية تشمل غياب الوعي، وآليات المتابعة والرقابة، وقلة كفاءة المحليات في القيام بواجباتها ومهامها الأساسية على الوجه الأمثل، ناهيك عن الذمم الخربة الفاسدة، والاستهتار الشائع بأرواح البشر، والاعتياد على الخطأ وتبريره وتقبله بصدر رحب، ويترافق مع ما سبق مرض عضال يفتك بنا اسمه "الفكر العشوائي". هذا الفكر العشوائي لا تقتصر ملامحه وظواهره على جزئية البناء العشوائي فقط، لأنه أصبح متغلغلا ونافذًا في العقلية المصرية، وتجد تجلياته وأعراضه الواضحة في الاستخفاف بالقواعد والضوابط الصغيرة منها قبل الكبيرة، والاستمتاع بمخالفتها والزهو بذلك، وإلا كيف نفسر سير البعض عكس الاتجاه داخل المدن والقرى وبالطرق السريعة، وتسببه في مآسٍ يندى لها الجبين، وإزهاق أنفس بريئة لا ذنب لها، وكذلك عدم الالتفات للاشتراطات المحددة للسلامة والأمان على وجه العموم، واستباحة الكثيرين الشوارع وكأنها ملكية خاصة لهم يفعلون فيها ما يحلو لهم. يمتد نمط الفكر العشوائي لتشتيت التركيز العام بمحاولة إغراقه في أحاديث التفاهات وصغائر الأمور، والنفخ فيها وخلق معسكرات مؤيدة وأخرى معارضة تتصارع وتتراشق فيما بينها، والوسيلة جاهزة ومفعولها من النوع السريع جدًا، وهي وسائط التواصل الاجتماعي المنتشرة التي يستخدمها الصغار والكبار لساعات طويلة على مدار النهار والليل، هذه الحالة تسفر عن تداعيات وانقسامات اجتماعية رهيبة وفظيعة، مما يدفع بالبعض للشك في الثوابت والأسس القائم عليها المجتمع، ويتساءل فيما بينه وبين نفسه هل أنا بالتزامي على صواب أم أهل الفكر العشوائي؟! من جهة أخرى، فإن الأمانة تقتضي القول بأن حريق فيصل قدم دليلا عمليًا ناصعًا على بعد نظر الدولة المصرية بقرارها قبل سنوات التصدي لظاهرة العشوائيات بكل ما فيها من قبح وعدم تحقيق لمبدأ العدالة الاجتماعية والحياة الآدمية الكريمة، ومسارعتها باستبدالها ببناء وحدات سكنية لائقة مجهزة بكل لوازمها من الأثاث والأجهزة الكهربائية، وبقية الخدمات الحياتية الأخرى. كما أكد صواب مسلك الدولة المصرية في مواجهة البناء العشوائي ووضع شروط صارمة للبناء، ودفع مبالغ مالية للتصالح وإصرارها عليها، وحينها واجهت الحكومة عاصفة من الانتقادات وحملات تفتيش وتشكيك وتحريض للناس، وتعاملت معها بذكاء وحنكة، وفندت توجهاتها بشكل مفصل ومقنع، وأثبتت الأحداث التالية أنها كانت محقة، لأن مرادها كان ولا يزال حماية المواطن وممتلكاته قبل أي شيء آخر، وأن الجميع خاضعون للقانون دون استثناء. فبرج فيصل بني قبل 6 سنوات بدون ترخيص، واستغل جزء منه لإقامة مصنع للأحذية بكل ما يضمه من مواد قابلة للاشتعال في ثوان معدودات، وتصميمه لم يكن مطابقًا للمواصفات واشتراطات الأمن الصناعي، ويخلو من فتحات للتهوية، مما جعل من الصعب إخماد الحريق الذي شب فيه لأسباب موضع تحقيق حاليًا، على الرغم من جهود 36 سيارة إطفاء لإخماده، علاوة على إخلاء نحو 50 أسرة تقطن أدواره ال 13، وسكان 3 عمارات مجاورة، ولنا أن نتخيل لدقيقة حجم الكارثة الناتجة عن احتراقه وتأثيراتها على محيطه. ولكي لا نبكي كثيرًا على اللبن المسكوب فإن واقعة فيصل لابد أن تضع خطًا فاصلًا وحاسمًا أمام كل مَنْ يُفكر في مخالفة القانون، والتمادي في العشوائية بصورها المتعددة، وأعتقد أن الجهات المعنية والمختصة بهذه الملفات عليها خلال الفترة المقبلة أن تولي اهتمامًا مضاعفًا بالنقاط الآتية: أولًا: وقفة حازمة ورادعة مع كل متقاعس عن أداء عمله بالشكل الواجب، ومعاقبته وفقًا للقانون وبما يتناسب مع ما اقترفه من جرم، في الوقت نفسه فإن الإدارات الهندسية بالمحليات تقول إنها تفتقر للأعداد الكافية التي تمكنها من القيام بمهمتها كما ينبغي، وبناء عليه يجب مراعاة ذلك والنظر في شكواهم والسعي لسد العجز بأسرع ما يمكن، ومنحهم الاختصاصات والصلاحيات المطلوبة والكفيلة بوقف مخالفات البناء في التو واللحظة، وأن تتلاءم رواتبهم مع متطلبات الحياة وحركة الأسعار. ثانيًا: الإسراع بإقرار تعديلات قانون البناء الموحد، وإدخالها حيز التطبيق العملي في القريب العاجل. ثالثًا: إقامة مناطق صناعية مؤمنة خارج الكتل السكنية لتفريغها من مصادر تهدد سلامتها وسلامة قاطنيها، وحسنًا فعلت الحكومة بإصدارها تعليمات جلية بإقامة مثل هذه النوعية من المناطق بالمدن الجديدة. رابعًا: حصر الانتهاكات والمخالفات غير المحدودة بالأحياء، المتمثلة في استغلال البدروم كمخزن، أو ورش تصنيع، ومراكز صيانة أجهزة.. الخ، وتغريم أصحابها، والمحليات مسئولة عن عملية الحصر، واتخاذ الإجراءات القانونية الواجبة، ويتحتم عليها تشكيل فرق متابعة مستمرة تتولى الرصد وتصحيح الأخطاء من بدايتها وليس الانتظار لحين استفحالها وخروجها عن إطار السيطرة، لنستيقظ على وقع كارثة جديدة.