لا أظن أن الذين يتباكون على تصفية مصنع الحديد والصلب يتعاطون مع القضية بمنظور موضوعي ولا ينظرون إلى القرار على أنه الحل الوحيد بعد أن تم استنفاد كل الوسائل المتعارف عليها في التعامل مع الكيانات الإنتاجية المتعثرة. وبعيدًا عن العواطف والحسابات السياسية والمزايدات الحزبية والأيديولوجية التي يتخذها البعض وسيلة للهجوم على قرار التصفية وذريعة لمهاجمة سياسات الدولة الاقتصادية، والدفع بأن هذا الكيان من ثمار ثورة يوليو العظيمة، أو من إنجازات الزعيم جمال عبدالناصر الذي نحترم تاريخه الوطني ونقدره، إلا أن هذه الدفوع على الرغم من أنها مقدرة، فإنها لا تبني اقتصادًا ولا تخدم مصلحة وطنية في دولة تسعى إلى بناء اقتصادي قوي ينهض بالبلاد، في ظل تحديات جسيمة يمر بها العالم وتتطلب مواجهة مدروسة وقرارات صائبة.
لا قداسة لكيانات اقتصادية استنفدت كل الحلول وفشلت معها كل الإجراءات وأخفقت فيها كل الأفكار والأطروحات، وبات استمرارها من المستحيل, فلا يعقل أن تصل ديون الحديد والصلب إلى نحو 9 مليارات والخسائر المتتالية إلى نحو 6 مليارات، ويقال بعد ذلك إن الشركة تستمر بهذه المنظومة الفاسدة في الإدارة والإنتاج والتسويق، ثم نتحدث بلغة المشاعر عن تاريخ المصنع ونتجاهل لغة الأرقام التي لا سواها حين نتحدث في علوم الاقتصاد. قبل شهور وفي بريطانيا معقل الاقتصاد الحر لم يشفع التاريخ لشركة "توماس كوك" أكبر، بل أول شركة سياحة في العالم، أو يحميها من قرار تصفيتها عندما غرقت في الديون والخسائر, وحين طلب مجلس إدارة الشركة من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون التدخل بالموافقة لمنح الشركة قرضًا قيمته 200 مليون جنيه إسترليني لانتشالها من الأزمة كان رده: "لا أستطيع منح أموال الشعب لشركة خاسرة وغارقة في الديون".. وزد من الشعر بيتًا أن الشركة تأسست في عام 1841، ويبلغ حجم مبيعاتها السنوية 9 مليارات جنيه إسترليني، وكان يعمل بها 22 ألف موظف، بينهم 9 آلاف في بريطانيا، كما كانت تخدم 19 مليون عميل سنويًا في 16 دولة حول العالم. يقينًا هذا النموذج في التعامل مع الشركات المتعثرة هو السائد في جميع الدول التي حققت اقتصادات قوية تقوم على الإنتاج والربح والحوكمة في الإدارة، فلا مجال للخسارة ولا مكان للتعثر, وهناك حالات كثيرة في العديد من دول العالم لم تتحمل شركة خاسرة. ولا شك أن الفشل الذي لحق بشركة الحديد والصلب هو آفة القطاع العام في كل مكان، وأثبتت التجارب أن الإدارة السيئة لهذا القطاع وعدم قدرته على التطور والتحديث والمنافسة باتت عائقًا أمام استمراره. لقد مر القطاع العام المصري بالعديد من الأزمات منذ عقود، ولم تفلح معه تعديلات تشريعية ولا تغييرات إدارية؛ بل تحول إلى بؤر فساد واستنزاف لموارد الدولة التي وجدت نفسها ملزمة بتحمل الخسائر وصرف المرتبات لكيانات ليس لها جدوى. ربما في كتب التاريخ تجد صفحات تحدثك عن أن مصنع الحديد والصلب كان قلعة صناعية تحقق أرباحًا, أو تقرأ عن مصنع النصر للسيارات أن مصر سبقت به اليابان في هذه الصناعة؛ بل إنه استقبل وفدًا يابانيًا للاطلاع على التجربة المصرية, لكن التاريخ يقول أيضًا إن المصنع فشل في الاستمرار، ومصر لم تنجح حتى اليوم في صناعة سيارة مصرية 100%؛ بينما اليابان تنتج نحو 20 مليون سيارة سنويًا؛ بل صارت في مقدمة الدول المصنعة للسيارات في العالم. البكاء على الماضي لا يصلح لبناء المستقبل ولا يقيم دولة، واليوم مصر على أعتاب نهضة صناعية جديدة عبر تشييد وتوطين العديد من الصناعات الكبرى التي تأخذ بمفاهيم الحداثة والتكنولوجيا في التصنيع والإدارة الرشيدة في الإنتاج. Alymahmoud [email protected]