زين الله تعالى نبيه الأمين محمد بن عبد الله «صلى الله عليه وسلم» بزينة الرأفة والرحمة؛ فقد تحلت شخصيته الشريفة بصفة الرحمة، فوجوده الشريف رحمة، وسائر أخلاقه وشمائله وأحواله السنية رحمة، ورسالته وشريعته أوسع الشرائع رحمة وسماحة بجميع الناس وليس لأمته خاصة. نعم، فقد اقتضت حكمة البارى سبحانه اختلاط الرحمة بالشدة فى شرائع وأحكام الأنبياء والرسل السابقين مناسبة لأحوال النفوس البشرية عبر الأزمان ومختلف الأماكن، ثم أسعد الله تعالى الأمة البشرية جمعاء بتمحض الرحمة والرفق والتيسير ورفع الشدة وإزالة الحرج والتعسير أبدًا؛ حيث يقول الله تعالى ممتنًا على الأمة المحمدية: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[الْبَقَرَة: 185]، وقال تعالى: (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحجّ: 78]. وَقَالَ النَّبِى «صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم»: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ». ومعلومٌ أن تلك السعادة وذلك الشرف ظهرت بشائره وبدأت ملامحه بميلاد النبي «صلى الله عليه وسلم» فى شهر ربيع الأول فى عام الفيل (السنة الثالثة والخمسين قبل الهجرة النبوية الشريفة) الموافق الثانى والعشرين من شهر أبريل (نيسان) عام 571 ميلادية، حيث تواردت الدلائل على بعث جديد للحياة البشرية التي يعم فيها الحب والسلام والخير والعدل والعمران. إن رحمة النبي «صلى الله عليه وسلم» لم تكن متكَلَّفة أو من قبيل التجمل أو التصنع، إنما هى رحمة حقيقية تلقائية مُشاهدة فى كل أحواله المنيفة وأطوار عمره الشريف من خلالها فاض الخير وعمت البركة ووصلت المنافع للقريب والبعيد وشملت العناية والرعاية المستحق وغير المستحق دون تمييز. وبذلك تشهد السيدة خديجة «رضي الله عنها» حين قالت له «صلى الله عليه وسلم» ردًّا على قوله حين رجع من أول مرة لنزول الوحي: «لقد خشيت على نفسي» فذكرت مظاهر رحمته من إكرام القرابة والضيف ومواساتهم، ومساعدة المحتاج والقيام بشأنه مع تحمل من فيه أذى أو ثقل أو غلظة، وإعطاء الأموال للمحتاجين، وإعانة الناس على أحوالهم فى الضراء أو الفتن. لقد ورد فى السنة النبوية القولية والعملية صورٌ متنوعة وأمثلة رائعة من رحمة رسول الله «صلى الله عليه وسلم»؛ فقد كان رحيمًا رؤوفًا بالأطفال وكبار السن والضعفاء، وكان رحيمًا عطوفًا على المرأة، وكان رحيمًا بالمخطئين، وكان رحيمًا شفوقًا على الأسرى، وكان رحيمًا بالحيوان والطير، وهى رحمة متجردة عن الهوى وعن النفعية الدنيوية والأهداف الشخصية وأنتجت عن الرحمة أخلاق نبيلة أخذ أبوسفيان بن حرب يعددها - وقد كان مشركًا يومئذ - أمام هرقل ملك الروم حين سأله عن «بماذا يأمركم محمد؟»، فقال: «إنه يأمرهم بالصلاة، والصدق، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة»، فقال هرقل: «وهذه صفة نبي» (صحيح البخاري). وكما شملت رحمته «صلى الله عليه وسلم» المسلمين فقد شملت أيضًا غيرهم؛ حيث احترم النبي «صلى الله عليه وسلم» وجودهم وعاهدهم وساكنهم وعاملهم بالبيع والشراء وسائر أنواع التصرفات وعاش معهم حياة اجتماعية قوية مع مراعاة حقوقهم العامة التى قرر فيها أن لهم ما للمسلم وعليهم ما على المسلم، كما اقتصر فى حروبه معهم على دفع العدوان وإقرار مظاهر الحرية والسلام والاستقرار دون تعدٍ أو انتقام، بل كان شأنه «صلى الله عليه وسلم» الدعاء لخاصتهم ولعامتهم بالهداية. وفي ذلك يقول: «إنى لم أبعث لعَّانا، وإنما بعثتُ رحمةً» (صحيح مسلم)، ويقول أيضا: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا». فهذه المعانى تظهر أن النبى «صلى الله عليه وسلم» هو الرحمة العظمى لجميع الخلق، فهى رحمة غير مسبوقة لم يماثلها مخلوق فى شمولها كل الخلق واتساع نطاقها، وهي تستوجب من أهل الإسلام التحلي بها وبمظاهرها والابتعاد عن أضدادها كالغلظة والتسلط والعنف وجفاف المشاعر؛ امتثالا لقول رسول الرحمة «صلى الله عليه وسلم»: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ». * نقلًا عن صحيفة الأهرام