لم يعرف التاريخ معلما كملت حياته بأنبل دروس للإنسانية, غير سيدنا محمد( صلي الله عليه وسلم) بما اشتملت عليه أخلاقه من رحمة, وصبر, وعفو, وصدق, وإخلاص, ووفاء, وخلق كريم فاضل يعجز البشر عن إحصائه. لقد جمع الله سبحانه وتعالي لرسولنا محمد( صلي الله عليه وسلم) مكارم الأخلاق البشرية, وتألقت روحه الطاهرة بعظيم الشمائل والخصال, وقد اصطفاه الله تعالي علي بني آدم, وختم به أنبياءه, فكانت حياته أنصع حياة عرفتها الإنسانية منذ نشأتها, ويكفيه صلي الله عليه وسلم) شرفا وفخرا أن الله سبحانه وتعالي قد شهد له بعظمة الأخلاق, فقال تعالي:( وإنك لعلي خلق عظيم)( القلم:4). ومن عظيم الأخلاق التي تحلي بها الرسول( صلي الله عليه وسلم) خلق الرحمة, فلقد وهبه الله قلبا رحيما, يرق للضعيف, ويحنو علي المسكين, ويعطف علي الخلق أجمعين, فكانت الرحمة له سجية, فشملت الصغير والكبير, والقريب والبعيد, والمؤمن والكافر, فهو رحمة الله للعالمين:( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)( الأنبياء:701), وهو( صلي الله عليه وسلم) رحمة ربانية مهداة لكل الخلق, وما سنته وسيرته وحياته كلها إلا مظاهر من رحمته( صلي الله عليه وسلم), بل من مظاهر رحمة الله تعالي بالخلق أن بعث هذا النبي الكريم, فقد جاء بمنهج شامل للحياة, كانت الرحمة من أهم ركائزه, ولقد علمنا( صلي الله عليه وسلم) بمواقفه العظيمة وتعامله مع الجميع كيف ننسج من الرحمة ثوبا نهديه إلي من حولنا, ليتحول العدو إلي حبيب بتلك اللمسة الحانية. ومن رحمته( صلي الله عليه وسلم) أنه كان حريصا علي الناس شديد الخوف عليهم, يسعي بكل سبيل لرفع المشقة عنهم, يقول تعالي:( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)( التوبة:821) إنه من أنفسنا ومن أنفسنا شفوق بنا, حريص علينا يشق عليه عصياننا, رؤوف بنا يقف علي الصراط يقول: رب سلم سلم, ويطيل السجود والدعاء يدعو لأمته بالنجاة والسعادة يوم القيامة, يسجد تحت عرش الرحمن فلا يرفع رأسه حتي يقال له: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع, فيقول يا رب أمتي أمتي. وقد تعددت مظاهر التعبير عن الرحمة من جانب النبي( صلي الله عليه وسلم) تجاه أهل بيته, فتارة نراه في خدمة أهل بيته, وتارة نراه يداعبهم ويدخل السرور إلي قلوبهم, وتارة أخري نراه يتجاوز عن أخطائهم برحمة وحنو, وهكذا كانت إشارات الرحمة تنتشر في بيت النبوة, فتفيض عليه حنانا, ومن رحمته( صلي الله عليه وسلم) بالصغار اعتبر عدم تقبيلهم وإشباعهم بالحب والعطف قسوة ونزعا للرحمة, فعن عائشة( رضي الله عنها) قالت جاء أعرابي إلي النبي( صلي الله عليه وسلم) فقال: تقبلون الصبيان! فما نقبلهم فقال النبي( صلي الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة) صحيح البخاري. ولقد شملت رحمته( صلي الله عليه وسلم) الجاهل فكان يعلمه برفق ولا يعنفه علي تقصيره, ولا ينتقص من قدره, فهذا الأعرابي الذي بال في مسجده( صلي الله عليه وسلم) ثار الناس وهموا أن يفتكوا به لهذا الجرم الذي فعله, فماذا فعل النبي( صلي الله عليه وسلم)؟! قال: دعوه وأهريقوا علي بوله ذنوبا من ماء, أو سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين( صحيح البخاري) والعجب كل العجب أن نجد مظلة الرحمة النبوية تمتد لترفرف علي من ناصبوه العداء وحاربوه وفعلوا معه كل ما يستطيعون من الكيد والإيذاء, إن يوم الحديبية وحده يكفي دليلا علي عظمة رحمة النبي( صلي الله عليه وسلم), فها هو يقترب من مكة التي خرج منها مطرودا, وهو اليوم في موطن القوة يستطيع أن يفاجئ القوم ويفعل بهم ما يريد, لكنه يؤثر السلم ويقبل شروط أهل مكة التي لم يرض بها كثير من المسلمين في حينها, فقبلها حتي لا تراق قطرة دم, لقد كانت الرحمة في تفاصيل حياته كلها حتي في وقت الحروب التي دفع اليها دفعا, فها هو يدخل مكة بجيشه العظيم الذي أعجز أهل مكة أن يقاوموه مجرد مقاومة فيسمع سعد بن عبادة( رضي الله عنه) يقول مزهوا: اليوم يوم الملحمة, فيرد النبي( صلي الله عليه وسلم): بل اليوم يوم المرحمة ثم تأتي لحظة النصر فيقف أهل مكة جميعا أمامه خاضعين مستسلمين ينتظرون أي قضاء يقضي فيهم رسول الله( صلي الله عليه وسلم), فيقول لهم: ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء,. من علماء وزارة الأوقاف