حج نبينا محمد "صلى الله عليه وسلم" في حياته مرة واحدة هي الأولى والأخيرة، وهي التي أخذ الصحابة منها هديه وسنته فيها، فحفظوا الحركات وحفظوا الكلمات، ثم نقلوها لنا كما عاشوها معه لتكون دليلا لنا. خروج النبي للحج في الخامس من شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة أعلن النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" عن رغبته في حج بيت الله الحرام، وفورًا امتلأت المدينة وجاء الناس من كل حدبٍ وصوب لكي يصحبوه من أول هذه العبادة ولا يفوتهم شيء من شرف الزيارة. فخرج النبي "صلى الله عليه وسلم" بصحبة حوالي مئة ألف من المسلمين رجالا ونساءً من المدينة قاصدًا مكة، وحينما وصل ميقات ذي الحليفة وقف ليصلى في المسجد، وبعدها ركب ناقته القصواء وهو يلبي قائلا : « لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، وذلك لقوله "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية"، وذلك بعد أن اغتسل في الميقات، فمن السنة أن يتجرد المحرم من ثيابه المخيطة لقوله "عليه الصلاة والسلام": "انزع عنك جبتك واغسل عنك أثر الطيب واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك". لماذا بكت عائشة؟ وقبل مكة حاضت أم المؤمنين عائشة "رضي الله عنها"، وكانت قد أحرمت بالعمرة متمتعة، فحزنت وبكت، فقال لها النبي "صلى الله عليه وسلم": "مالكِ أنفستي - أي هل حضتي - ذاكِ شيء كتبه الله على بنات آدم فاصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت". حجة الوداع ثم وصل إلى المصطفى "صلى الله عليه وسلم" إلى الكعبة، وكان أول ما ابتدأ به طوافه بالبيت، وهذه هي سنته "عليه الصلاة والسلام" فكان يُحي مكة ويحُي البيت بالطواف به، فطاف سبع مرات رمل ثلاثًا - أي إسراع المشي مع تقاربِ الخُطَى - ومشى أربعًا، ثم اتجه إلى مقام إبراهيم وهو يقرأ: ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾، فصلى هناك ركعتين، وجعل المقام بينه وبين الكعبة، ثم عاد بعدها إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، وهو يقرأ: ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾، فبدأ بالصفا، ثم نزل ومشى إلى المروة، وسعى بين الصفا والمروة سبع مرّات. من مِنى إلى عرفات وفي يوم التروية - وسمي يوم التروية من الرَّي لأنهم كانوا يحملون الماء فيه إلى عرفات من أجل سقي الحجاج، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة - توجه النبي "صلى الله عليه وسلم" ومن معه إلى مِنَى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث إلى أن طلعت الشمس، ثم سار إلى عرفة فنزل بنمرة، وهناك وقف خاطبًا بالناس قائلا: خطبة حجة الوداع "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته واستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا، أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا، وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن عبدالمطلب. وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قود (فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح أو ما أجري مجرى السلاح والقود القصاص) وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية ... ألا هل بلغت اللهم فاشهد. أما بعد أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحرقون من أعمالكم فاحذروه على دينكم، أيها الناس إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ألا هل بلغت اللهم فاشهد. أما بعد أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقًا ولكم عليهن حق. لكم أن لا يواطئن فرشهن غيركم، ولا يدخلن أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا ... ألا هل بلغت اللهم فاشهد. أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه ... ألا هل بلغت اللهم فاشهد . فلا ترجعن بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد. أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ... ألا هل بلغت اللهم فاشهد. قالوا : نعم، قال : فليبلغ الشاهد الغائب. أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في أكثر من ثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، والسلام عليكم". وبعد هذه الخطبة الجامعة صلى نبينا "صلى الله عليه وسلم" الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم ركب حتى أتى الموقف "عرفة" فاستقبل القبلة وظل هكذا واقفًا داعيا وملبيا وذاكرا الله حتى غربت الشمس. في المشعر الحرام وبعدها ذهب إلى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، وبقي بها حتى الفجر فصلى ثم ركب الى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة داعيا ومكبّرا ومهلّلا حتى قبل طلوع الشمس، بعدها خرج ليرمي الجمرة بسبع حصيات، مكبّرا مع كل حصاة منها، ثم انصرف إلى المنحر فنحر الهدي وحلق. وفي اليوم الثالث عشر من ذي الحجّة، رمى الجمرات ، ثم نزل إلى مكة آخر الليل، فصلّى الفجر بالناس، ثمّ طاف بالبيت طواف الوداع وقال: "اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافًا". وفي صبيحة هذا اليوم وهو الرابع عشر من ذي الحجّة عاد النبي إلى المدينةالمنورة وقد أتمّ مناسكه، عليه أفضل الصلاة والسلام.