يبحر في عالمه الخاص الذي يبدو فيه تناغمه وسط ما يحيطه بالكثير من الآلات الموسيقية التي يقودها بذكاء، بل يشعر من يشاهده ويستمع إلى موسيقاه بأنه روحه وإحساسه الداخلي هما المتحكمان في قيادته للأوركسترا، تبدو إبداعاته في دقته التي يصنع بها أعماله التي يحتفظ فيها بهويته العربية ما يجعله واحدًا من أبرز الموسيقيين على مستوى الوطن العربي. المايسترو اللبناني آندريه الحاج، قائد الأوركسترا الوطنية اللبنانية، يضع بصمته هذا العام من خلال مشاركته في حفل غدًا، الثلاثاء، لمهرجان الموسيقى العربية، الحفل الذي يمنح فيه الجمهور المصري رحيقًا من دولته لبنان، حيث يقدم أمسية بعنوان "لبنان..الزمن الجميل" بمشاركة الفنانة كارلا رميا، وعازف الكمان أندريه سويد وعازف الإيقاع علي الخطيب. الحاج يتحدث في حواره ل"بوابة الأهرام" عن احتفاء مهرجان الموسيقى العربية بدولة لبنان في دورته الحالية، وتمسكه بهويته العربية في أعماله الموسيقية، ويتحدث عن تراجع التأليف الموسيقي على مستوى الوطن العربي، وعما إذا كانت الأغنية احتلت المكانة الأعظم على الساحة الفنية، وتفاصيل أخرى في السطور القادمة. شاركت في العديد من المهرجانات والأحداث الموسيقية على مستوى العالم، فماذا يعني لك التواجد بمهرجان الموسيقى العربية ؟ مهرجان الموسيقى العربية واحد من أهم الأحداث الموسيقية التي تقام بالمنطقة العربية، ويحمل كثيرًا من الخصوصية والمكانة، ولاشك أن هذا الملتقى الفني العربي الفريد، جميعنا كصناع موسيقى نتوق إليه جميعًا، ويكفي أن المهرجان يقام بمكان عريق مثل دار الأوبرا المصرية. كيف تجد احتفاء مهرجان الموسيقى العربية بلبنان هذه الدورة سواء على مستوى تواجد الموسيقيين أو الفنانين؟ أنا وكل اللبنانيين نقدّر كثيراً هذه اللفتة الكريمة من جانب المهرجان بتكريم كبير إلى دولتنا، وفي مقدمتهم اسم الموسيقار الراحل حليم الرومي، كما أنني سعيد بالمشاركة اللبنانية المتنوّعة، وهذا الاحتفاء بلبنان ليس غريباً على مصر ولا على علاقاتنا التاريخية والأخوية المتجذّرة في كل الميادين. إلى مدى تعتقد أن المهرجانات الموسيقية العربية تلعب دورًا حيويًا في الحفاظ على هوية الموسيقى العربية بشكل عام ؟ بالطبع واجب المهرجانات الموسيقية أن تلعب الدور الأساسي في الحفاظ على هويّتنا الموسيقية والإرث الكبير الذي نمتلكه جميعًا نحن العرب، فهذه مسئوليتنا جميعاً فيما يتعلق بإحياء الذاكرة بإرث النجوم الكبار لدينا، وتعريف الأجيال الجديدة بهم، فحاضرنا ومستقبلنا هو امتداد للماضي العريق الذي تركه لنا العملاقة الراحلين. كيف نجح آندريه الحاج في الحفاظ على هوية الموسيقى العربية في الوقت الذي اقتحمت فيه الحداثة الموسيقية السوق الغنائية؟ إضفاء الحداثة أمر ضروري لتجديد الأعمال لكن مع إبقاء الجوهر كما هو، فأنا لا أسمح لنفسي أن أمسّ بجوهر العمل في أساسه إنما أقوم بالإعداد المناسب الذي يضمن إبقاء الجوهر لكن بلمسة حداثية. هل قيادتك الأوركسترا الوطنية اللبنانية والشرق العربية منحتك فرصة أعظم للعمل على تحقيق مشروعك الموسيقي، وإلى أي مدى تجدها مؤثرة في المنطقة العربية، خصوصًا وأن كثيرًا من النجوم الكبار يفضلون العمل من خلالها في حفلاتهم ؟ المشروع الأساسي لقيادة الأوركسترا هو الحفاظ على التراث، وعلى كل قائد أوركسترا في كل بلد المحافظة على تراث بلده، وأنا من جهتي عليّ الحفاظ على تراث لبنان مثلما على القائد المصري الحفاظ على تراث مصر، وبالتالي تكون مهمتنا جميعًا الحفاظ على تراثنا العربي الأصيل. وهذا بالطبع يؤثّر في المنطقة العربية ويخلق خصوصية لكل أوركسترا وهوية خاصة بها يحترمها الآخرون والنجوم الكبار الذين يعملون من خلالها في حفلاتهم، ويصبح عملهم شبيهاً بأكاديمية هذه الأوركسترا. كيف تقيّم وضع الأوركسترات العربية حاليًا مقارنة بالأوركسترات في العالم ؟ المقارنة بين الأوركسترات العربية والعالمية مستحيلة بحكم الفرق الشاسع بين العالمين والثقافة الموسيقية المختلفة لكلٍّ منهما. أعود إلى آلة العود والتجديد الذي حدث بها في السنوات الأخيرة عن طريق تطويعها في موسيقى الجاز أو الأوركسترا الغربية.. فما هو تقييمك لهذه الحالة؟ أي آلة موسيقية تخضع للتأليف مهما كانت التقنيات صعبة، لكن ما يخدم الآلة في واقع الأمر هو التأليف، وهذا ما فعله العراقيون، حيث قاموا بتطويع العود لخدمة التأليف، إذ انصب اهتمام العراقيين أو المدرسة العراقية للعود على هذا الأمر، أما فيما يختص بالجاز فأنا لست ضد هذه الفكرة لكن شرط أن يكون الفحوى الموسيقي جيداً جداً. هل تقصد في موسيقاك التي تؤلفها التأكيد على أصولنا العربية وأخذ بعض ملامح من الفلكلور العربي؟ لا يمكن لأي موسيقي إلاّ أن ينطلق من أصوله وبيئته وهويّته ومما يختزنه، لأن الموسيقى ما هي إلاّ انعكاس لِما يمثّلنا ويُعبِّر عنّا، وإن لم نعكس تراثنا وهويّتنا والمخزون الذي لدينا ونحرص عليه في أعمالنا، فما النفع إذاً من كل ما نقدّمه؟ من وجهة نظرك.. لماذا تراجع التأليف الموسيقي في السنوات الأخيرة؟ لم يكن التأليف الموسيقي يوماً ما متقدّماً بالمعنى الحقيقي كما هو الحال في أوروبا، وذلك بسبب غياب الدعم المعنوي من الجمهور الذي تعوّد تاريخياً على فكرة الاستماع إلى الموسيقى كالجمهور الأوروبي، لذلك تقدّمت الأغنية والكلمة عندنا على التأليف الموسيقي. هل تؤمن المجتمعات العربية بأهمية الموسيقى وصناعها المحترفين كأنهم يذهبون لحضور حفلاتهم أو شراء أسطواناتهم الموسيقية، أم أن ثقافة المطرب لا تزال هي الغالبة؟ مما لا شك فيه أن الأغنية طغت واحتلّت المكانة الأبرز في مجتمعاتنا العربية، لكن يجب علينا ألاّ ننسى أن الموسيقى هي النصف الآخر من الهوية التي يجب علينا تعزيز حضورها بالتوازي مع حضور الأغنية، ولذلك أعود وأكرر من خلال دعم التأليف الموسيقي معنوياً ومادياً وتخصيص مساحة له في الأمسيات الموسيقية تطور الثقافة الموسيقية، وهذه هي الإستراتيجية التي اتّبعتها منذ استلامي قيادة الأوركسترا من أجل أن يعتاد الجمهور على الاستماع للموسيقى مثلما يستمع للأغنية. من هم الموسيقيون المصريون والعرب تعتبرهم من الذين حافظوا على هوية الموسيقى العربية بالتوازي مع إدخال فكرة الحداثة عليها؟ بالنسبة إلى مصر، فلا شك أن الأساس في هذا الأمر هو الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب، فهو لديه خصوصية كبيرة في ألحانه، أما عربياً فهناك الأخوان رحباني وفريد الأطرش. هل هناك روح تجمع بين الموسيقى اللبنانية والمصرية؟ لكلّ منهما المنطلق والبيئة الخاصة المؤثّرة في صنعها، لكن ما يجمعهما هو إصرار كلّ منهما على الهوية الخاصة والتمسّك بها لذلك لكلٍّ منهما حالة خاصة وفريدة. من هم المؤثرون في ثقافة آندريه الحاج الموسيقية على مستوى العائلة والعمل؟ أوّل المؤثّرين في ثقافتي الموسيقية هي طبعاً والدتي، والجو الموسيقي الذي تربينا عليه في بيتنا، فوالدتي هي الأساس في تكوين هذه الثقافة الموسيقية، وذلك المخزون الكبير الذي اكتسبته، وهي أيضاً الأساس في ذلك القَدَر الذي أخذني في هذا الاتجاه. وعلى مستوى العمل، فأكثر المؤثرين بي الدكتور وليد غلمية، وجدّيّته وانضباطه بالعمل الذي هو أساس النجاح، فضلاً عن كونه كان المحفّز الأول لي للتأليف الموسيقي عندما أَسّس الأوركسترا. في حياة كل موسيقار منهجية خاصة في عمله، فما هي الحالة التي يستقي منها آندريه الحاج أعماله الموسيقية، هل ترتبط بحالة المجتمع أم أنها نابعة من مزاجية داخلية؟ المنهجية الخاصة لا تعود للمجتمع، بالرغم من التأثّر الذي لا يمكن إنكاره، على سبيل المثال، نحن في لبنان لدينا المدرسة الكبرى وهي مدرسة الأخوين رحباني، ومن الطبيعي أن نتأثّر بها بشكل عام، لكن تبقى المنهجية الخاصة للمؤلف تعود للحالة الخاصة به والمقتنع بها والفكرة الموسيقية ومسار الخط اللحني الخاص به وهذا مصدره المخزون المُكَوَّن لدى كلٍّ منّا.