«الليالي» كتاب ثرى متنوع منفتح على ثقافات عديدة، وحكاياته جامحة، ماكرة، مخلصة لمقتضيات فن الحكى أكثر من إخلاصها لأى شيء آخر. الاثنين: «رُب ضارة نافعة»، هذا ما رددته فى سرى وأنا أتابع مؤخرًا الجدل المثار حول قرار إغلاق عدد من قصور وبيوت الثقافة ذات المقار المؤجرة، لأن هذه مناسبة لا ينبغى تفويتها لبحث سُبل تفعيل دور الهيئة العامة لقصور الثقافة خاصةً فى الأقاليم والمناطق المهمشة. هناك من يرون أن استمرار قصور وبيوت الثقافة أو إغلاقها سيان، مبررين رأيهم هذا بأنها لم تعد تمارس دورها المرجو وصارت مجرد ديكور. لكن من وجهة نظري، هذا ليس مبررًا للإغلاق، بل المطلوب والضرورى تفعيل دورها والسعى لأن تصبح مؤثرة فى محيطها مجددًا. لقد لعبت قصور الثقافة منذ إنشائها دورًا كبيرًا فى نشر الفن والثقافة فى مختلف أقاليم مصر وارتبطت بأحد العهود الذهبية للثقافة المصرية، وإن كانت قد أُهمِلَت وتناقص تأثيرها فى فترات لاحقة، فالحل يتمثل فى العمل على تنشيطها والنهوض بها بما يلائم العصر ويلبى احتياجات الناس، وليس فى التنازل طوعًا عن بنية تحتية ثقافية لا تُعوَّض ولا تُقدَّر بثمن. هذا ليس مطلبًا فئويًا يخص المثقفين وحدهم، فأهمية المنشآت الثقافية يجب ألا تقتصر عليهم، وألا تنحصر فى العاملين فيها والمترددين عليها. فهي، إن أُديرت على نحو مبدع، قادرة على إحداث تأثير كبير على محيطها كله عبر نشر المعرفة واجتذاب الصغار قبل الكبار وإرشادهم إلى قراءات وأنشطة تثريهم وتقودهم إلى مستقبل أفضل. ما يحتاجه مجتمعنا هو المزيد من بؤر الضوء، المزيد من المؤسسات الحاضنة للفكر والفن والرؤى المتطورة. لا نهضة بدون الثقافة، ولا تقدم بدون العلم والتعليم. هذا ما يخبرنا به التاريخ، وما يعرفه كل من قرأ عن تجارب الدول التى استطاعت النهوض والتغلب على التحديات والمعوقات. إن مكتبة صغيرة فى قرية منسية يمكنها أن تهدينا مستقبلًا عشرات الموهوبين فى تخصصات مختلفة. فالثقافة ليست حلية ويجب ألا تنفصل عن محيطها، فهى مكون أصيل فيه، وجزء لا يتجزأ منه، ولا فائدة تُرجى منها إن لم تنعكس عليه وتتجلى فى أبسط تفاصيله. أن تكون شخصًا آخر الثلاثاء: يقلل البعض أحيانًا من أهمية قراءة الروايات مقارنة بالكتب الفكرية، وفى هذا تجاهل لميزة مهمة فى الروايات تتمثل فى أنها أقدر على دفعنا للتعاطف مع الآخرين وعلى أن نضع أنفسنا مكانهم ما يدفعنا إلى تفهم دوافعهم والاطلاع على مكنون نفوسهم. يمكننا تبين هذا فى أوقات بعينها مثل أن نقرأ فى كتب التاريخ مثلًا عن شخصية مشهورة، ثم نقرأ رواية عن هذه الشخصية فنجد أنفسنا نراها فى ضوء جديد تمامًا. حدث هذا معى قبل فترة مع مستكشف القطب الشمالى جون فرانكلين الذى هلكت بعثته الاستكشافية الهادفة لاكتشاف الممر الشمالى الغربي، ولم تخلف أى أثر وراءها، ومثَّل هلاكها لغزًا لأكثر من قرن. وكنت قد قرأت عنه مقالات كثيرة، عرفت عبرها وجوهًا عديدة له، لم أتعاطف مع أى منها، ثم تصادف أن قرأت قبل فترة رواية «اكتشاف البطء» للروائى الألمانى «ستِن نادولني» عن فرانكلين فإذا بموقفى منه يختلف تمامًا، لأننى تعرفت عليه عبر هواجسه ومخاوفه وطموحاته ومواطن ضعفه البشري. رافقته منذ طفولته، وتفهمت مشاعره وخلجاته لأكتشف مجددًا ما يمثله فعل القص من سحر، ومن قدرة على شحننا بالآخرين وإحداث درجة عالية من التماهى معهم. «نادولني» فى هذه الرواية، التى ترجمها سمير جريس، غير مشغول بالتجديد فى تقنيات الكتابة قدر انشغاله بإعادة عالَم تلاشى إلى الوجود، وبعث فرانكلين روائيًا مع تقديم رؤية مغايرة إلى حد بعيد عن الرؤى التى شاعت عن شخصه، وقد نجح فى مهمته بامتياز، كاشفًا عما لفِعل القص من سحر يفوق ما عداه لأنه يُمكِّن القارئ من أن يعشش فى عقل ومخيلة شخص آخر، فيتماهى معه ويفهمه تمهيدًا لفهم نفسه فى نهاية المطاف. حُفرة أليس الأربعاء: فى رواية «مغامرات أليس فى بلاد العجائب» للويس كارول، تسقط أليس فى حفرة الأرنب فيكون هذا مدخلها لأرض العجائب. أما فى الواقع، فدون حاجة للسقوط فى حفرة سحرية، ثمة أماكن تنفتح أمام أعيننا لنشعر معها أننا نعاين واقعًا آخر مغايرًا لما اعتدنا عليه. هذه الأماكن قد نكون نمر بها لأول مرة، ولا يشترط فيها أن تحوى عجائب أو غرائب وحتى قد لا تختلف فى مظهرها عن غيرها، لكن تميزها يكمن فى أنها تتلامس مع شيء عميق داخلنا، أو تفتح سردابًا سريًا يقودنا إلى المنسى والمخبوء فى ثنايا ذاتنا. من بين الأماكن التى ينطبق عليها الوصف السابق بالنسبة لى مقاطعة «يوركشاير» الإنجليزية، وتحديدًا بقعة فى غرب «يوركشاير» قريبة من المكان الذى دفنت فيه الشاعرة الأمريكية «سيلفيا بلاث». مررت بالمقاطعة الشهيرة ذات صباح ماطر مع مجموعة من الكتاب لزيارة مقر لإقامة أدبية هناك. كان المطر قد خف كثيرًا حين اقتربنا من وجهتنا تاركًا رائحته المنعشة فى الهواء، وضاعف العشب الأخضر المبلل بالماء من نداوة كل ما حولنا. فوق تلة صغيرة زاهية الخضرة جلسنا على مقعد حجرى نرنو إلى السهل المنبسط تحتنا. ثم هبطنا المنحدر المؤدى إلى مقر الإقامة الأدبية محاطين بشجيرات ونباتات متنوعة، فساورنا إحساس أننا لا نسير فى بقعة ما على الأرض، إنما نخطو نحو حالة مزاجية وذهنية لم نعهدها قبلًا. فى المركز المخصص لإقامة الأدباء كان الهدوء مسيطرًا، معظم المقيمين فيه شعراء، رحبوا بنا وحدثونا عن أهمية العزلة التى يوفرها لهم المكان. وضحكوا عندما ذكرت أنى شعرت -بينما أهبط التل نحو مقرهم- بأننى «أليس» فى طريقها لاكتشاف عالم جديد، وذكر أحدهم أنه يشعر بهذا كل مرة ينتقل فيها من مكان مرتفع لآخر منخفض، لكن مقر الأدباء هذا ينطبق عليه الوصف أكثر، إذ فتح أمامه مناطق إبداعية جديدة بالفعل. فى المعهد العالى للفنون المسرحية الخميس: لو اخترت كتابًا واحدًا باعتباره الأمتع بالنسبة لى والأكثر تأثيرًا عليّ، فسوف أختار «ألف ليلة وليلة» دون تردد، ف «الليالي» كتاب ثرى متنوع منفتح على ثقافات عديدة، وحكاياته جامحة، ماكرة، مخلصة لمقتضيات فن الحكى أكثر من إخلاصها لأى شيء آخر، وفوق هذا هى ملهمة تثير فى ذهن من يقرأها أفكارًا وصورًا وتصورات لم تكن لتخطر له على بال فى ظروف أخرى. لهذا السبب حين تواصل معى الكاتب والأكاديمى د. ياسر علّام مؤخرًا كى ألقى محاضرة لطلاب قسم النقد والدراما بالمعهد العالى للفنون المسرحية ضمن ورشة القصة، ذهب تفكيرى فورًا إلى «ألف ليلة»، وقررت أن يكون موضوع محاضرتى ممكنات استلهام حكايتها الإطار، عبر تحليل هذه الحكاية من زاوية نقاط التشابه والاختلاف بينها وبين السرد القصصى المعاصر. وهو ما تفاعل معه الطلبة بحماس لمسته فى أسئلتهم الذكية التى حولت النقاش إلى جلسة عصف ذهنى ثرية. لقد أسعدنى أن يهتم المعهد العالى للفنون المسرحية بالسرديات، وهو اهتمام حديث، فورشة القصة أُضيفت كمقرر دراسى بالمعهد منذ عامين دراسيين فقط، وعُهِد إلى د. ياسر علام بتدريسه بحيث يتخرج الدارس بمعلومات وافية عن نشأة الفنون السردية القصصية فى العصور القديمة وتطورها فيما بعد، ويتعرف على المداخل الأولية للكتابة السردية.