القشعريرة التي تصيب بدنك حين ترى ذلك المبنى الأبيض، لمجرد وجود لافتة سوداء برائحة الموت، فضلا عن الهواء المنبعث من بين جدران الغرف الباردة، ربما كانا أسباب كافية للإشفاق على قرار الأخ الذي رفض بلا تردد تشريح جثة شقيقته، والاكتفاء بتصريح الدفن، وعبارة لا تمت للحقيقة بصلة نقشت في التقارير الرسمية تقول بأن"الوفاة طبيعية". مشرحة زينهم.. هنا مشرحة زينهم، المكان الذي يهابه الأحياء حد الاستعاذة منه، حيث يتجلى حديث الصمت، ويخيم على أرجاء المكان الذي يستضيف عشرات الجثث، ويخيم علي المكان سكون ورهبة، يدعوانك لعدم الاقتراب والمغادرة فورا دون إكمال مهمتك، التي أتيت من أجلها. شقيق طبيبة المطرية التي لاحقت حتفها مؤخرا، في ظروف غامضة خلقت جدلا واسعا بين الأطباء ومجتمع ال"سوشيال ميديا"، حين وجه حديثه للإعلام قائلا:"مش هنشرح بنتنا وأختي مش هتدخل المشرحة، احنا استعوضنا ربنا فيها خلاص.. وحتى لو التشريح فيه رجوع حقها فهي ماتت خلاص، ومفيش حاجة هترجعلنا بنتنا". عند الاقتراب من مبنى المشرحة، عليك أن توجه قدميك المرتعشتين للدخول من باب الموظفين، لا من باب الجثث، التي تم تجميعها بعد إتمام تشريحها، لتصل لمثواها الأخير، حيث الدفن. حتي الهواء الناطق باسم حقيقة الموت، والمنبعث من بين جدران غرفة التشريح القاتمة التي امتلأت بصناديق حديدية تراصت فوق بعضها البعض، في شكل توابيت تحمل أجسادا وأشلاء، فإنه قرر لها أن تبقى بضعة أيام لحين الانتهاء من قرار الطبيب الشرعي، بمشرحة زينهم، ربما شريك آخر، في عزوف وانصراف شقيق سارة"طبيبة مستشفى المطرية الراحلة" عن قرار التشريح وإهانة جسد أخته. بنتنا مش هتتشرح.. وجهة نظر شقيق الطبيبة سارة التي لاقت حتفها، في دورة المياه الخاصة بسكن الأطباء القابع بمستشفى المطرية، في ظل شهادة بعض الأصدقاء بأنها ماتت صعقا بالكهرباء، لإهمال المستشفى وعجز وزارة الصحة عن توفير سكن آمن للأطباء، انحازت لرفض التشريح من منطلق أن إكرام الميت دفنه.."التشريح مش هيرجع أختي للحياة واحنا مش عايزين نبهدلها بتحويلها لأشلاء، حقها عند ربنا خلاص". قرار الأخ احترمه البعض، في حين استقبلته الكثير من ردود الأفعال المتابعة للقضية بشئ من الغضب، معتبرين إياه نوعا من التفريط في حق الطبيبة التي ماتت بسبب الإهمال- كما يرون.. أم محمود ترفض "جتة أبوك متتقطعش يا محمود ولا جسمه يدخل مشرحة، أبوك يبات في قبره الليلة دي".. تحذيرات شديدة اللهجة وجهتها أم محمود لولدها، رافضة فكرة التشريح أيضا، لإثبات أن موت الأب كان نتاج إهمال طبي بأحد المستشفيات الحكومية، التي استخدمت أدوات جراحية ملوثة تسببت في غرغرينة ومن ثم الوفاة. أسرة محامي تطالب بالتشريح وبشكل مختلف ومن وجهة نظر مغايرة، تقرر أسرة محامي حلوان تحرير محضر رسمي يتهمون فيه أحد المستشفيات الحكومية بالإهمال الطبي، الذي أودى بحياة المحامي أثناء إجراء عملية "الزايدة" حتى تحول الأمر للنيابة التي أصدرت قرارها بتشريح الجثة والوقوف على الحقيقية. التقصير الطبي، الإهمال، موت الفجأة، وجود شبهة جنائية.. كلها أسباب لمطالبة البعض بوجوب التشريح، لمعرفة أسباب الموت الحقيقية ومحاسبة المتسبب فيه وخدمة العلم والبحث الطبي. تصاعد أعداد من يرحلون فجأة بدون سبب عضوي أو أعراض مسبقة، سبب آخر جعل بعض الأطباء يطالبون بحتمية إجراء تشريع جديد يلزم بتشريح المتوفي، اذا ما كانت الميتة غير طبيعية وعد إجازة الدفن إلا بالتشريح. أطباء دكتور خالد سمير، استشاري جراحة القلب بطب عين شمس، من الذين تبنوا فكرة إجراء تعديل قانوني، لا يجعل قرار التشريح يخضع لرأي الأسرة، خاصة في الموت غير الطبيعي، لمعرفة السبب الحقيقي للوفاة الذي لن يتكشف إلا بالتشريح فقط. ضياع للحقوق.. ويرى الطبيب، أن رفض الأم لتشريح زوجها، فضلا عن قرار الأخ المماثل بعدم تشريح شقيقته، ماهو إلا ضياع للحقوق، متسائلا:" ايه الفايدة من الاحتفاظ بجسد ميت في مقابل ضياع حق المتوفى ومعاقبة الجاني، أو اكتشاف السبب الحقيقي للموت؟". الفراعين وثقافة الاحتفاظ بالجثامين ثقافة الاحتفاظ بالجثمان صحيح، فكرة قديمة توارثها المصريون، ترجع أصولها لعصور ما قبل التاريخ حيث الفراعين القدامى، الذين اخترعوا التحنيط من أجل الإبقاء على جثامين ذويهم، تمهيدا لعودة الروح والحياة الأخرى- بحسب زعمهم- وهو فكر لم يعد يتماشى مع العصر الحديث- وفق ما قاله جراح القلب. ويلفت الطبيب..في كل دول العالم التشريح إلزامي، على أي حالة وفاة تكون مفاجئة أو غامضة، باعتبار أن سبب الوفاة لابد أن يكون حقيقيا وليس وهميا لذر الملح في الوجوه. تقارير ليست دقيقة.. "هبوط حاد في الدورة الدموية- سكتة دماغية- سكتة قلبية- انفجار الشرايين"- عبارة يلجأ لها موظف الصحة لشغل الخانات الفارغة لتمكين أسرة الميت من تصريح الدفن، لكنها لا تعكس أسباب الموت الحقيقية التي لا تخطئ بها غرفة التشريح- وفق ما أقره الجراح. آراء في القصاص.. "ولكم في الحياة قصاص يا أولي الألباب" نص قرآني لحفظ حقوق من ارتدوا الثياب البيض واللحود، فهل يتعارض مع "إكرام الميت دفنه"- سؤال وجهناه للدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، والذي أكد، أن جسد الإنسان حيا أو ميتا مكرما، وله حرمة عند الله عز وجل. "كريمة" تخشي سرقة الأعضاء.. يستشهد رجل الدين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.." كسر عظم الميت ككسره حيا"، ليؤكد أن لجسد الميت حرمته، إلا أنه لم يبخل علينا بالقاعدة الفقهية التي تقول "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". يشرح "كريمة" وجهة نظر الدين.. إن كان هناك شبهة في أن الموت ناتج عن تعدٍ أو إهمال أو تعمد، فهنا الأمر يستوجب التشريح لحفظ الحقوق ومعاقبة الجاني، ولكن أخشى أن يصطاد البعض في الماء العكر، ويستسهل التشريح لتنشيط تجارة سرقة الأعضاء وبيعها". ما تفعله كليات الطب حرام.. يضيف أيضا.."بشهادة أهل الطب أنفسهم، يتم تشريح الكثير من الجثث بالمستشفيات التعليمية، من أجل سرقة الأعضاء وبيعها، وهو ما أخشاه على موتانا". الإبلاغ أولا.. دكتور فتحي قناوي،أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، ينصح الأسر بتحرير محاضر رسمية إذا ما تم الشك في الوفاة وعدم الرضوخ لأي مساومات أو الخوف من تهديدات، ويوضح.. أن قرار التشريح موكول للنيابة فقط.."بس النيابة هتعرف ازاي بدون محضر وبلاغ رسمي". طبيب الصحة"مشكلة المشاكل" يضيف "قناوي" أن مشكلة المشاكل تكمن في طبيب الصحة، إذا ما كان غير كفء أو على دراية بالأسباب التي تستدعي رفضه لاستخراج تصريح بالدفن وتحويل الأمر للنيابة العامة. يرى أستاذ العلوم الجنائية أيضا، ضرورة إلحاق أطباء الصحة بدورات تدريبية متقدمة ومتخصصة في الطب الشرعي وغيرها من العلوم لمعرفة الحالات التي لا يجب فيها الدفن بدون تشريح. ومن زاوية أخرى يستنكر ويرفض رجل الأزهر، ما تقوم به كليات الطب.."كليات الطب بتجيب جثث الأموات وتشرحها وتدرب الطلبة على مخلوقات ربنا وهو حرام حرام حرام ولا يجوز شرعا ويجب الكف عنه". الطب الشرعي علميا وعمليا.. مصلحة الطب الشرعي، إحدى جهات الخبرة الفنية التابعة لوزارة العدل، والمعاونة للهيئات القضائية، ضمن تخصصاتها التشريح، الذي يعد أصدق أداة لتحديد سبب الوفاة،علميا وعمليا. خطوات التشريح يتم فحص الثياب بشكل مبدئي، ثم إزالته تماما، لفحص الجلد وخلوه من الكدمات، أو الجروح الغائرة أو وجود أثر لحقن. كما يقوم الطبيب المختص بعمل مسح بالأشعة السينية، لكشف ما إذا كانت هناك إصابات داخلية أو نزيف غير ظاهر، أو عظام مكسورة، إضافة لاستكشاف وجود أجسام غريبة بداخل المتوفى. ويتم فحص أجهزة الجسم الداخلية أيضا وهي في مواضعها، قبل الشروع في إزالتها ووزنها، وتدوين حالتها، ثم يتم إعادة جسد المتوفى على وضعه الأول، ومن ثم كتابة تقرير مفصل بالحالة وبيان ما إذا كانت الوفاة متعلقة بجريمة قتل أو إهمال. تتباين وجهات نظر المختصين بين رفض تام للتشريح ووجوبه، ليظل السؤال معلقا.. هل إكرام الميت- المتوفى في ظروف غامضة- دفنه؟ أم أن الإهانة كل الإهانة في ضياع الحقوق من أجل الإسراع بالجنازات؟.