في مصر أشياء غريبة غير مفهومة.. مثلا المحلات والورش والعامل الفني أو الصنايعي لا يبدأ عمله قبل العاشرة صباحًا، وعندما تسأل عن الأسطى أو صاحب الورشة يأتيك الرد "سيأتي الساعة 12"، وكلما ازدادت أهمية العامل الفني كان من حقه أن يأتي متأخرًا أكثر من باقي العاملين. في كل بلاد الله المحترمة هناك مواعيد لبدء العمل وأخرى لإغلاق المحال والورش، و40 ساعة عمل أسبوعية للعامل لا يتجاوزها، ولا يترك العمل خلالها مهما كانت الأسباب، وفي المقابل ينتهي العمل في العاشرة مساء على أكثر تقدير للأماكن التي تعمل بنظام الورديتين. وهذه ليست بدعة في بلاد أوروبا وأمريكا فقط، ولكنها في معظم بلاد العالم حتى في الدول العربية الشقيقة، مواعيد صباحية ومسائية، وفي السعودية المحال تغلق أبوابها في التاسعة مساءً، وطبعًا يستثنى من ذلك الصيدليات، وبعض محال بيع الأغذية، والأماكن التي تستدعي طبيعة عملها الاستمرار لساعات متأخرة. ما جدوى أن تشكو الحكومة من زيادة استهلاك الكهرباء وسرقتها، وانتشار عمليات تهريب السلع من المنافذ الجمركية إلى المحال، بينما نترك تلك المحال والورش سهرانة حتى ساعات متأخرة من الليل والمقاهي مفتوحة إلى ما شاء الله، وطبعًا نتيجة للسهر يذهب الموظف إلى عمله ليكمل نومه على المكتب أو يعامل المواطنين بعصبية؛ لأنه لم يأخذ ما يكفيه من النوم، وتفتح الورش والمحال أبوابها بعد ظهر اليوم التالي. في مصر حجم استهلاك الكهرباء نحو 28 ألف ميجاوات؛ منها نحو 10% للمحال التجارية و30% لقطاع الصناعة، و43% للمنازل و5% للجهات والمصالح الحكومية، ونحو 12% لباقي القطاعات، وعندما حدثت أزمة في 2013 ولم يكف إنتاجنا من الكهرباء استهلاكنا، كان التفكير في زيادة الإنتاج من الطاقة الإنتاجية، وتكلفنا نحو 120 مليار جنيه وأكثر لإنشاء محطات جديدة، وبالفعل نجحت الحكومة في ذلك إلى حد كبير فيما يشبه المعجزة؛ لأن مصر لم يكن لديها المال اللازم لإنشاء تلك المحطات، ولكننا لم نفكر في أن كل ساعة سهر تكلف الدولة ملايين الجنيهات من استهلاك الكهرباء، وتضيع عليها مليارات من انخفاض إنتاجية العامل المنهك بسبب السهر. لا يمكن أن يتحول المواطن المصري من مستهلك إلى منتج، وهو يسهر حتى ساعات الفجر الأولى في المقاهي والأندية، وأمام شاشات التلفاز طوال الأسبوع، حتى أولادنا وشبابنا معظمهم أدمنوا السهر أمام الكمبيوتر والإنترنت وشبكات التواصل - أو الانفصال - الاجتماعي، وأصبح كل فرد مشغولًا عن باقي أسرته في عالمه الخاص. صحيح أن إنتاج مصر من الكهرباء تجاوز 33 ألف ميجاوات، ومن المتوقع مع أن يصل إلى نحو 59 ألف ميجاوات بعد إنشاء 3 محطات تبنيها شركة سيمنز في العاصمة الإدارية الجديدة، وفي بني سويف والبرلس على أحدث ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا في العالم بطاقة 14 ألف و400 ميجاوات، بخلاف المحطات النووية الأربعة والتي ستبدأ أولها في الضبعة بعد 4 سنوات في عام 2020 لإنتاج 1200 ميجاوات لتصل بعد اكتمال المحطات الأربعة إلى 4400 ميجاوات جديدة لتكتمل منظومة إنتاج الكهرباء؛ بحيث لا تحدث أي مشكلة في حال خروج محطة من الخدمة لأعمال الصيانة. كل ذلك خطوات رائعة، ولكن "حكومة ستة الصبح" التي حلمنا بها لن تتحقق ولن يصبح الصانع والفلاح ومقدمو الخدمات منتجين بحق إلا إذا بدأت كل وسائل الإنتاج والمحال والورش والمكاتب عملها مع ساعات النهار الأولى، وأن تغلق أبوابها قبل العاشرة مساء. المكاسب التي يمكن أن تتحقق من إغلاق المحال مبكرًا لن تقف عند حد توفير الطاقة التي تستهلك معظم إنتاج مصر من الغاز الطبيعي حاليًا، ولن تقف عند حد تحويل المواطن المصري من كائن ليلي ينام بالنهار ويسهر بالليل، ولكن أيضًا ستؤدي إلى إحكام السيطرة على جزء كبير من عمليات التهريب الجمركي والتهرب من الضرائب وسرقات التيار الكهربائي في العمليات التي تتم ليلا في غياب الجهات الرقابية. المشكلة التي واجهت تنفيذ مقترح تحديد مواعيد لإغلاق المحال، خاصة في القاهرة، كانت بسبب الضغوط التي مارستها الغرف التجارية، وبعض رجال المال والأعمال وكبار التجار؛ بحجة أن المناخ الحار يجعل المستهلكين يذهبون للتسوق في الساعات المتأخرة من الليل، وهو حق يراد به باطل؛ لأن المستهلك في كل أنحاء العالم حتى في دول الخليج الأشد حرارة من مصر يشترون احتياجاتهم في أوقات عمل المحال. ليتنا نعود إلى تنفيذ حلم "حكومة ستة الصبح" لنجد المجتمع قد انضبط، ويذهب الطبيب إلى المستشفى والعامل إلى المصنع والفلاح إلى حقله والموظف إلى مكتبه من أول دقيقة عمل، ولا يترك عمله ليذهب إلى عربة الفول أو المقهى ليتناول "الاصطباحة" ويبدأ عمله الفعلي مع ظهر اليوم.