في جلباب يشير إلى هويته الصعيدية، ملطخ بالكثير من الأصباغ المستخدمة في تلميع أحذية زبائنه، وعمامة بيضاء كبيرة تعلو رأسه أكسبتها عوادم السيارات لونًا رماديًا، اتخذ الرجل المُسن جلسته التي اعتاد عليها لسنوات كثيرة لم تسعفه ذاكرته حصرها، يجاوره عكاز خشبي يعينه على الحركة بعد بتر ساقه، يردد ما تيسر من آيات الله بصوت متهدج يكاد يلتقط أنفاسه. يخبئ "عبد الكريم" نصف ساقه المبتور، هربًا من نظرات الشفقة التي قد تحملها أعين المارة والزبائن، مصرًا ألا تغيب ابتسامته ليصبح من رجلٍ معاق إلى صانعٍ للبهجة بين المحيطين به. مقابل جنيهين لا أكثر، يجلس "عم عبده" على أحد أرصفة المحروسة يملأه الرضا بما قسمه الرزاق من ابتلاء، يقول: "الفقر مش فقر جيوب وفلوس، الفقر فقر تفكير ونفوس يا بنتي.. العجز مش رجل مبتورة، والحر ما يمدش يده إلا لله". حكم بسيطة الكلمات عميقة المعاني، تُشكل وجدان الرجل الخمسيني، حين يُسأل عن معاناته بعد بتر ساقه إثر تعرضه لحادث سيارة أقعده عن مهنته الأولى. يستمر عبد الكريم في سرد حكايته بيد محترف تحمل فرشاة سوداء تعرف طريقها لحذاء الزبائن وكأنها تتحدى بتر الساق ويوضح.. تزوجت من ابنة عمي وجيبت منها 5 أطفال منهم 3 معاقين، كنت شغال بواب وقتها، بس عملت حادثة قطعوا فيها نص رجلي وزوجتي من حزنها عليا ماتت. بوفاء الزوج المحب، تدمع عينا الرجل ويقسم: "زوجتي ماتت وهي بت عشرين سنة كنت واخدها صغيرة، لكن كانت أم وأب وذكية وصابرة". وبحركة غير متوقعة، أمسك عبد الكريم بخرقة قديمة امتلأت بالأصباغ كانت تتواجد بالقرب من نعله، واستخدمها في مسح دموعه ليتابع حديثه: رفضت أتجوز وكملت مشواري وربيت العيال، دخلت 2 الجامعة وباقي معايا 3 معوقين بيقولوا عليهم "منغول" عقلهم على أدهم- حسب تعبيره. لم يستطع ابن محافظة أسيوط الاستمرار في عمله ك"بواب" وقرر العمل في تلميع الأحذية لأن المهنة الأولى "تحتاج لعشر أيادي وزيهم رجول"- حسبما قال. يرتل متحدي الإعاقة في أثناء عمله آيات وأذكار تعقبها همهمات تحمل بداخلها الكثير من معان الفخر بصندوقه الخشبي الذي صنعه بيده لزبائنه المهتمين بتلميع أحذيتهم، غير مكترث بما خلفه له الحادث القديم. كما يفتخر بابنه الأكبر الذي تخرج في كلية التربية والآخر الأوسط الذي حصل على ليسانس الحقوق بفضل مهنته البسيطة. "إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه"- يوقن بها العجوز أن فقده لنصف ساقه محبة من الله وأنها سبقته للجنة كما أخبره الشيوخ. يضع عم "عبده" عكاز خشبي بدائي الصنع تحت إبطه الأيمن، بينما يقبض بيسراه على صندوقه ويغادر ميدان رمسيس متوجهًا لمنزله بمنطقة الوراق، مع الساعة الخامسة مساءً، لتبدأ مهمته الأخرى وإعداد الطعام لثلاثة أبناء "منغوليين". يأتي صبي صغير ويقطع حديثي مع عبد الكريم، بسؤال: "بتلمع الجزمة الصغيرة بكم يا حج؟" فيجيبه -دون تكبر أو خجل- من غير فلوس يابا، إرفع رجلك هنا، ثم يبدأ بتنظيف حذاء الصغير وهو يمازحه. الرجل "الأمي" شديد الذكاء، قرأ علامات الانبهار تسيطر على ملامحي لذا قال.. "الشغل مش عيب يا بنت أبوكي، نعل الكبير والصغير على راسي طالما فيه لقمة عيش". "زجاجة بها مادة صبغية بنية اللون وأخرى سوداء، ومثلهما شفافة إلى جانب فرشتين وعلبتين تحتويان علي مادة شمعية"- هي أدوات عبد الكريم التي يستخدمها في مزاولة عمله الذي يدر عليه دخلًا يتراوح بين (20إلى30) جنيهًا، يوميًا- وفق ما أخبرنا به. هل لديك زبائن من النساء؟- يجيب عم "عبده": قليلين، بس في ست عجوزة من دوري كده بتيجي كل خميس تلمع جوز جزم وهي قاعدة أصلها بترفض ترفع رجلها في وشي". يوضح"عبده" أن كثيرًا من الزبائن يرفضون وضع أقدامهم علي صندوق التلميع حياءً منهم وأنهم يفضلون ارتداء "شبشب" احتياطي يحضره هو ويضعه بجواره لمثل تلك الحالات. بسبب مطاردات الحملات الأمنية بمنطقة رمسيس يتنقل الرجل بصندوقه من مكان لآخر، رغم تأكيده حسن معاملة رجال الأمن، إلا أنه يعاني غلو الخامات التي يستخدمها خاصة مع رفضه لرفع تسعيرته، رأفة بجيوب الناس- على حد قوله. "لا توجد لدي أمنيات سوى أن يرعى الله لي أبنائي المعاقين من بعدي، فهذا كل ما يشغلني الآن"- قالها بعينين تلمعان بالدموع لكنه هذه المرة استدار بوجهه نحو الاتجاه الآخر في محاولة منه للتماسك وضبط النفس. صانع البهجة الذي لم تفارقه ابتسامته رغم الوجع، قرر أن يرسم ابتسامة أخيرة على وجهي الذي ظهر عليه الحزن تأثرًا بحديثه، حيث أمسك بفرشاته وكأنها ميكروفون ليسألني: إيه رأيك تتجوزيني أجيب لك عشة ما تحلميش بيها؟. لم ينتظر عبد الكريم موافقتي لذا أسرع بالإجابة مازحًا: عارف عارف إنك موافقة، بس أنا مرتبط. يرفض عبد الكريم قبول أي مساعدات مادية من المارة ويعتبرها إهانة ولأنه حظي بجانب كبير من اسمه لم يتردد في إهدائي بطاقة ورقية تحمل أذكار الصباح والمساء، مؤكدًا أنها تدفع البلاء، غير أنها تجلب الرزق مختتمًا حديثه بالضحكة المعتادة "أنا مش عارف مكتوب فيها إيه بس حافظ وممكن اسمع".