فى كل مرة يحل فيها موعد تطبيق إجراءات الرفع المتدرج للدعم الحكومى على السلع والخدمات تظهر أصوات تطالب برفض أو إرجاء أو حتى التظاهر ضد الزيادات السعرية المترتبة على تنفيذ هذه الإجراءات، وتتجاهل هذه الأصوات أن برنامج الإصلاح المالى معلن منذ سنوات فى إجراءاته وتوقيتاته، ومن ثم فإن هذه الأصوات تخلط بصورة متعمدة بين نقد برنامج الإصلاح ذاته وأهدافه، وبين الحديث عن معاناة الناس من آثار تطبيقه وهى معاناة يعرفها الجميع، وفى مقدمتهم إدارة الدولة نفسها كما يظهر من تصريحات الرئيس وأعضاء الحكومة. ولهذا فمن الحق القول إن هذه الانتقادات تفتقد للموضوعية، ويتضاعف خطرها عندما تصدر من رجال الاقتصاد أو المشتغلين بالعمل السياسى العالمين بدقة الموقف الاقتصادى، لأنها حين ذلك تعد تلاعبا خطرا بمشاعر الناس واستغلالا سياسيا لمعاناتهم مع ارتفاع تكاليف الحياة. نقد برنامج الإصلاح برمته حق مشروع لكل من هو مؤهل ومطلع على مجمل الأحوال الاقتصادية فى بلدنا، وتأتى الأحزاب السياسية فى مقدمة هؤلاء، فضلا عن الجامعات والمؤسسات البحثية وحتى النقابات والاتحادات العمالية وحتى اتحادات الأعمال، فكل هذه المؤسسات يفترض أنها تمتلك الخبرات والكوادر الاقتصادية المؤهلة لفهم ومناقشة برنامج الإصلاح المعلن من الحكومة وضروراته، ويمكنها أيضا أن تقدم بدائل عن هذه الإجراءات أو بعضها، ما يؤدى إلى تخفيف أعباء وآلام خطوات الإصلاح على المصريين بمختلف شرائحهم. غير أن هذا النهج لم نرَه بكل أسف ولم نجد حتى ولو ورقة أو دراسة واحدة معلنة تطرح برنامجا بديلا لما يجرى اتخاذه من إصلاحات للخروج من الأزمة الاقتصادية الحرجة التى بلغت أوجها فى عام 2016، بعد 8 سنوات من تسجيل عجز متواصل فى الموازنة العامة من رقمين ووصول الدين العام إلى ما يتجاوز الناتج المحلى الإجمالى لمصر، وهو وضع حرج يتعين مواجهته بصرامة اتقاءً لعواقبه الوخيمة على الجميع، كما يعرف كل من له خبرة ودراية.. وكل من يتصدى للعمل العام. تجمهر بعض من ركاب المترو أمام المحطات رفضا لزيادة سعر التذكرة أمر مفهوم ومبرر، وكذلك تذمر نفر من سائقى التاكسى والميكروباص أمام الكاميرات احتجاجا على ارتفاع أسعار الوقود مما يمكن تفهمه فهذه صيحات ألم مشروعة من بسطاء يعانون من متاعب الحياة ومضطرين لتحمل المزيد، لكن غير المبرر والمرفوض كليا أن تزأر عناصر من النخبة أمام الكاميرات رفضا للقرارات وهى تذرف دموع التماسيح على الفقراء التى ستزداد متاعبهم جراء تطبيق هذه الزيادات على الرغم من علمهم البين بأنه لا يوجد طريق آخر سلكته أى من الدول التى سبقتنا على طريق النهوض والنمو غير هذا الطريق الصعب والمؤلم. فى نقد الإجراءات الإصلاحية الأخيرة لا يمكن الاكتفاء بالمطالبة بزيادة الضرائب على الأغنياء والإشارة إلى الفساد المستشرى لتعويض العجز الضخم فى الموازنة، وهذه إجراءات لا يمكن الاختلاف حولها، ولكن هذه الشعارات التى لا تحتاج إلى متخصصين لطرحها ينبغى أن يرفق بها برنامج تفصيلى لكيفية الوصول إليها دون آثار جانبية اقتصادية واجتماعية، كما أنه لا يمكن تجاهل أن حصيلة الضرائب فى موازنة الدولة قد تضاعفت من 360 مليار جنيه فى 2014 لتصل إلى 750 مليارا فى الموازنة الجديدة. كذلك لا يمكن تجاهل جهود الرقابة الإدارية فى ضبط ومحاصرة جرائم الفساد المستشرى منذ عقود، ومع ذلك فإن هناك الكثير مما ينبغى عمله فى مختلف مجالات الإصلاح بما فيها التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية، ولكن هذه الإصلاحات لن تكون بديلا عن إصلاح المالية العامة إصلاحا جوهريا عبر التخلص من نفقات الدعم المرهقة وكذلك تكلفة خدمة الدين التى تصل إلى 541 مليار جنيه فى الموازنة الجديدة. القضية ربما تكون معقدة على كثير من المصريين، لكنها ليست كذلك بالتأكيد بالنسبة لأهل النخبة ولملايين الجامعيين وحاملى الشهادات، فخطر تفاقم الدين العام يمثل عقدة تاريخية فى وجدان المصريين منذ أن أدى فى نهاية القرن التاسع عشر إلى عزل خديو واحتلال البلاد. ومنذئذ حرصت حكومات ما قبل ثورة يوليو على الالتزام بتوازن المصروفات مع الإيرادات للحيلولة دون وصول الدين العام إلى معدلاته الخطرة، وظل هذا النهج قائما حتى عام 1965 عندما ظهر بند الدعم السلعى فى موازنة الدولة وأخذ يتضخم عاما بعد عام، حتى الإجراءات التى اتخذها الرئيس السادات فى يناير 1977 كانت تنطلق أيضا من هذه العقدة، غير أن المظاهرات الشهيرة أبطلت مفعولها، وكانت النتيجة النهائية أن بلغ بند الدعم فى الموازنة الجديدة 338 مليار جنيه.. رغم الإصلاحات.