أخطر ما نراه الآن هو سعى بعض القوى لتحويل إجراءات الإصلاح المالى والنقدى الذى نمر به إلى قضية سياسية تستهدف التلاعب بمشاعر الناس ومعاناتهم جراء تطبيق هذه الإصلاحات، ومع ذلك وفى الوقت نفسه، فإن الخطاب الإعلامى الذى يسارع إلى التبشير بنجاح خطط الإصلاح فى أيامها الأولى لا يقل خطورة، وربما يهدد بتقويض الثقة ببرنامج الإصلاح الذى تتبناه الحكومة. الثقة كانت أساس تحمل المواطنين لارتفاعات الأسعار والارتباكات الناتجة عن الشروع فى تطبيق إجراءات خفض عجز الموازنة، وكذلك العمل على إعادة تعاملات النقد الأجنبى إلى مسارها الطبيعى داخل الجهاز المصرفى. الفطرة السليمة للمصريين كانت وراء تحملهم بصبر آلام رفع أسعار الوقود وتداعيات »تعويم« الجنيه، فقد عرفوا أن هذه الإجراءات صارت حتمية فى ظل النقطة التى بلغتها التشابكات الاقتصادية والمتاعب الحقيقية التى تواجهها الدول الداعمة، فموازنات التقشف باتت سمة عامة فى اقتصادات دول الخليج والدول المشكلة للاتحاد الأوروبى، ولم يعد ممكنا إلا الاعتماد على الذات لمواجهة الأزمة الاقتصادية التى نعيشها لأسباب مختلفة، وهى على كل حال أزمة لا يمكن مقارنتها بالأحوال المتردية للاقتصاد فى عدد من دول المنطقة، وهى بالتأكيد تقل كثيرا فى شدتها عما مرت به قبرص وأسبانيا والبرتغال فضلا عن اليونان وهى دول بلغ حجم ديونها معدلات قياسية، وارتفعت فيها البطالة لتتراوح بين 20 و 30٪ من قوة العمل، ولولا ارتباط هذه الدول بمنطقة اليورو لكانت قد شهدت معدلات تدهور قياسية فى عملاتها الوطنية إذا ما كانت تتعامل بها. مشكلة المزايدين على متاعب الإصلاح أنهم لا يقدمون بديلا لعبور الأزمة، وباستثناء الحديث العام عن فرض مزيد من الضرائب وتحميل الموسرين العبء الأكبر من تكاليف الإصلاح فإنهم يتجاهلون، عن عمد على الأرجح، الاحتياجات العاجلة للإصلاح النقدى والمالى، وهل تنتظر فوائد الديون وفاتورة الاستيراد ريثما يتسنى التوصل إلى نظام عادل ومحكم للضرائب يمكن أن يسد الفجوة بين نفقات الموازنة وإيراداتها، وهو ما يستغرق حدوثه سنوات؟. على الجانب الآخر فإن »التهليل« لكل بادرة تحسن تطرأ على مسارات الإصلاح ربما يأتى بنتائج عكسية لا ضرورة لها، وقد تابعنا بذهول بعض المنابر الإعلامية وهى تحتفى بميل الدولار للانخفاض فى الأسبوع الثانى لنظام الصرف الجديد أو ما يسمى بالتعويم، وقد كان هذا السلوك خطيرا، وقد رأينا بعض خطورته فى تراجع التحويلات من الدولار مع نهاية الأسبوع، وهو ما دفع البنوك لرفع سعر شرائه فى الأيام التالية.. وحتى الآن. الإجراءات الإصلاحية معقدة وتتداخل معها الكثير من المتغيرات، وكل من له صلة يعلم أن الحكم على نظام الصرف الجديد لا يمكن إصداره قبل مرور عدة أسابيع أو أشهر، فنحن الآن فى مرحلة تشبه »غليان اللبن« وينبغى أن نصبر حتى يهدأ السوق ويبرد، وحينها يمكن الحديث عن نسبة النجاح كما يمكن عندها تحديد القيمة الحقيقية للجنيه، وهو السؤال الذى يشغل بال الجميع الآن ولا يوجد أفضل من أن ننتظر ونرى، وربما تأتى الإجابة فى نهاية المطاف صادمة للمضاربين والمكتنزين، لكن الأمر يحتاج للصبر ولبعض الوقت، ولكثير من الكفاءة والنزاهة من كل أطراف السوق. قضية الدولار تحتل الصدارة الآن بلاشك، لكن هذا لا ينبغى أن ينسينا متابعة جهود الإصلاح المالى، وقد وجدنا وزارة المالية فى الآونة الأخيرة تركز على خفض النفقات وهذا ضرورى بلاشك، ولكن العمل على تنمية إيرادات الخزانة العامة يظل هو الأساس فى تحقيق التوازن المالى، الضرائب مهمة وهى تحتاج بلاجدال إلى إصلاحات جوهرية، غير أن الإصلاحات العاجلة مطلوبة قبل غيرها، وأولها إعادة النظر فى تطبيق ضريبة البورصة المجمدة، وكذلك تحصيل الضرائب المتأخرة التى تصل إلى 70 مليار جنيه، واستكمال حصر المجتمع الضريبى ومواجهة التهرب، ومن غير المعقول أن كل ما يدفعه محامو مصر لا يتجاوز 74 مليون جنيه سنويا وكل الأطباء 100 مليون، وأن كل حصيلة الضرائب المهنية تقف عند مليار جنيه بما يقل عن 3 ٪ من جملة حصيلة الضرائب.